تكنولوجيا

الإعلام في عصر التحول الرقمي: أسس الإدارة والتحديات المستقبلية

كتاب “الأسس العلمية لإدارة المؤسسات الإعلامية والصحفية” للدكتور طارق سعدة

الإعلام في عصر التحول الرقمي: أسس الإدارة والتحديات المستقبلية

كتب د. وائل بدوى

في عصر يشهد تحولات جذرية في الإعلام الرقمي والتقنيات الحديثة، يبرز كتاب “الأسس العلمية لإدارة المؤسسات الإعلامية والصحفية” للدكتور طارق سعدة كنقطة ارتكاز لفهم كيفية إدارة المؤسسات الإعلامية بأساليب علمية حديثة تتماشى مع متطلبات العصر. هذا الكتاب لا يأتي فقط كمجموعة من النظريات المجردة، بل هو نتاج خبرة عملية وتطبيقية تنعكس في محتواه، ما يجعله مرجعًا مهمًا للصحفيين والإعلاميين وكل المهتمين بمجال إدارة المؤسسات الإعلامية. يهدف الكتاب إلى تقديم أدوات علمية ومنهجية تساعد في تحسين الأداء الإعلامي وضبط آلياته الإدارية، خاصة في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه قطاع الإعلام في ظل التكنولوجيا الرقمية والتغيرات المتسارعة في سلوكيات الجمهور وطرق استهلاك المحتوى الإعلامي.

إن إدارة المؤسسات الإعلامية لم تعد كما كانت عليه في العقود الماضية، بل أصبحت تتطلب مهارات أكثر تعقيدًا تشمل التخطيط الاستراتيجي، تحليل البيانات الضخمة، واستيعاب دور الذكاء الاصطناعي في تطوير المحتوى الإعلامي. هذه العناصر تفرض على القائمين على المؤسسات الإعلامية تبني نماذج إدارية جديدة، وهو ما يعالجه الكتاب بشكل مفصل من خلال تحليل دقيق للممارسات الإدارية الفعالة التي تضمن استدامة المؤسسات الإعلامية في بيئة شديدة التنافسية. وقد ألقى الكتاب الضوء على مفهوم “الإعلام الذكي” الذي يقوم على الجمع بين التقنيات الحديثة والإدارة الإعلامية الفعالة لتحقيق أقصى تأثير على الجمهور المستهدف.

الكتاب لم يكتفِ بالحديث عن النظريات الإدارية، بل تطرق إلى دور التشريعات الإعلامية في ضبط المشهد الإعلامي، وهي نقطة جوهرية في ظل تصاعد الجدل حول حرية الإعلام ومسؤولياته. فالتشريعات والقوانين المنظمة للعمل الإعلامي تلعب دورًا في تحقيق التوازن بين حرية التعبير وحماية المجتمع من الأخبار المزيفة والمحتوى غير المهني. يناقش الدكتور طارق سعدة في كتابه كيف يمكن للمؤسسات الإعلامية أن تتعامل مع هذه التشريعات بطريقة تعزز من استقلاليتها دون أن تقع في فخ التوجيه المسبق أو فقدان مصداقيتها. ويرى الكاتب أن الإعلام يجب أن يعمل وفق “إطار أخلاقي ومهني” يضمن له الحرية وفي الوقت ذاته يحفظ حقوق الجمهور في الحصول على معلومات دقيقة وموثوقة.

من القضايا التي يعالجها الكتاب أيضًا تحديات الإعلام في العصر الرقمي، حيث أصبحت المؤسسات الإعلامية تواجه منافسة شرسة من المنصات الرقمية وشركات التكنولوجيا الكبرى. لم يعد الإعلام التقليدي وحده هو المصدر الرئيسي للأخبار، بل أصبح ينافسه الإعلام الاجتماعي الذي يعتمد على الخوارزميات والتفاعل المباشر مع الجمهور. هذا التغير فرض على المؤسسات الإعلامية ضرورة إعادة النظر في طرق إنتاجها وتوزيعها للمحتوى، والبحث عن استراتيجيات جديدة تضمن لها مكانة في سوق إعلامي متغير. في هذا السياق، يناقش الكتاب كيف يمكن للإعلام التقليدي أن يستفيد من التحول الرقمي من خلال تطوير نماذج عمل تعتمد على التحليل الرقمي والتفاعل المستمر مع الجمهور.

لم يكن توقيع الكتاب مجرد حدث ثقافي عادي، بل جاء مصحوبًا بندوة علمية حضرها نخبة من الإعلاميين والأكاديميين الذين ناقشوا أهمية إدارة المؤسسات الإعلامية بأساليب علمية حديثة. خلال الندوة، تحدث الكاتب الصحفي رزق عبد السميع عن تجربته في إدارة مؤسسة دار المعارف الصحفية، حيث أشار إلى أهمية تبني استراتيجيات جديدة لضمان استمرارية المؤسسات الإعلامية في ظل التحديات المالية التي تواجهها العديد من المؤسسات الصحفية. أضاف عبد السميع أن المؤسسات الإعلامية تحتاج إلى تنويع مصادر دخلها من خلال مشاريع مبتكرة تعزز استقرارها المالي، مشددًا على ضرورة الحفاظ على التراث الصحفي وتقديمه بطريقة تجذب الأجيال الجديدة من القراء.

من جانبها، سلطت الإعلامية نائلة فاروق، رئيس التلفزيون المصري، الضوء على التحديات التي تواجه الإعلام المرئي في ظل التطور التكنولوجي المتسارع. وأشارت إلى أن التلفزيون المصري يمتلك إرثًا عريقًا، لكنه يحتاج إلى تطوير مستمر في البنية التحتية والتقنيات المستخدمة لمواكبة التغيرات في مجال البث والإنتاج الإعلامي. وأكدت أن العنصر البشري هو الرهان الحقيقي لأي مؤسسة إعلامية ناجحة، مشيرة إلى أن الإعلاميين المخضرمين الذين خرجوا من التلفزيون المصري لا يزالون يشكلون نواة النجاح في العديد من القنوات الفضائية المصرية والعربية.

أما الدكتور هشام البحيري، أستاذ إدارة الأعمال بجامعة القاهرة، فقد تناول بُعدًا مختلفًا للإدارة الإعلامية، حيث تحدث عن العلاقة بين الذكاء العاطفي والقيادة الإعلامية. وأوضح أن الإدارة ليست فقط عمليات حسابية أو قرارات تنظيمية، بل تعتمد بشكل كبير على قدرة القائد الإعلامي على بناء علاقات ناجحة مع فريق العمل والجمهور. أشار البحيري إلى أن الذكاء العاطفي أصبح عنصرًا أساسيًا في نجاح المؤسسات الإعلامية، حيث أن القدرة على فهم المشاعر وإدارتها بشكل فعال تعزز من قدرة القادة على اتخاذ قرارات صحيحة في المواقف الصعبة.

في مداخلته، تحدث الدكتور محمد عبد الله، عميد معهد الدراسات البيئية بجامعة دمنهور، عن أهمية التكامل بين التخصصات المختلفة في تطوير الإعلام الحديث. وأشار إلى أن المؤسسات الإعلامية لم تعد تقتصر على الصحفيين والمحررين، بل تحتاج إلى فرق متعددة التخصصات تشمل خبراء في البيانات، علماء نفس، ومتخصصين في التكنولوجيا الرقمية لضمان تقديم محتوى يتناسب مع طبيعة الجمهور الحديث. يرى عبد الله أن التكامل بين العلوم البيئية والإعلام قد يفتح آفاقًا جديدة في مجال التوعية البيئية ونشر الثقافة المستدامة.

من جانبه، أكد الإذاعي عبد الرحمن البسيوني، رئيس إذاعة صوت العرب، أن الإذاعة المصرية لا تزال تلعب دورًا مهمًا في المشهد الإعلامي رغم التطورات التكنولوجية الحديثة. وأشار إلى أن الإذاعة المصرية كانت شاهدًا على محطات هامة في تاريخ مصر، وساهمت في تشكيل وعي الكثير من الأجيال. تحدث البسيوني عن التحدي الذي يواجه الإذاعة في عصر البث الرقمي، مشيرًا إلى أن تطوير المنصات الرقمية والبث عبر الإنترنت أصبح ضرورة لاستمرار تأثير الراديو في ظل التحولات الإعلامية الجديدة.


من الأفكار التي نوقشت في الندوة أيضًا، العلاقة بين الإعلام التقليدي والإعلام الجديد. يرى بعض الخبراء أن الإعلام الرقمي قد يهدد الإعلام التقليدي، بينما يرى آخرون أنه يمكن أن يكون تكملة له وليس بديلاً عنه. الإعلام التقليدي يمتلك المصداقية والخبرة، بينما الإعلام الرقمي يمتلك السرعة والوصول الفوري إلى الجمهور. لذا، فإن التحدي الحقيقي ليس في الصراع بينهما، بل في كيفية دمجهما لإنشاء نموذج إعلامي حديث قادر على المنافسة والاستمرار.

في نهاية الندوة، أجمع الحاضرون على أن كتاب “الأسس العلمية لإدارة المؤسسات الإعلامية والصحفية” يمثل إضافة مهمة للمكتبة الإعلامية، حيث يقدم نموذجًا علميًا متكاملًا لإدارة المؤسسات الإعلامية بأسلوب حديث يأخذ في الاعتبار التغيرات التكنولوجية والتحديات الراهنة في المشهد الإعلامي. إن هذا الكتاب لا يخاطب فقط الإعلاميين والصحفيين، بل يخاطب أيضًا صناع القرار والمديرين التنفيذيين الذين يسعون إلى بناء مؤسسات إعلامية قوية ومستدامة.

المؤسسات الإعلامية لم تعد تعتمد فقط على جودة المحتوى، بل تحتاج إلى إدارة استراتيجية، استخدام فعال للموارد، وابتكار في مواجهة الأزمات. في هذا السياق، يقدم الكتاب خارطة طريق لأي مؤسسة إعلامية تسعى للبقاء والتطور في سوق متغير باستمرار. يبقى السؤال الذي يجب أن يطرحه كل إعلامي ومسؤول عن مؤسسة إعلامية: هل نحن مستعدون لمواجهة تحديات الإعلام الحديث بأساليب علمية ومنهجية؟

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى