تكنولوجيا

الخدعة الذهبية: كيف يقع الناس في شِراك مخطط بونزي؟

الخدعة الذهبية: كيف يقع الناس في شِراك مخطط بونزي؟

كتب د. وائل بدوى

في الفترة الأخيرة، انتشرت ظاهرة الاحتيال المالي تحت مسميات براقة ووعود مغرية، كان أبرزها مخطط بونزي، الذي لا يزال يخدع الآلاف رغم مرور عقود على ابتكاره. ينجذب الناس إلى هذه الأنظمة بسبب الإغراءات الكبيرة، حيث تُقدَّم لهم فرصة لتحقيق أرباح خيالية في وقت قصير دون بذل جهد حقيقي. لكن خلف هذه الوعود البراقة تكمن حقيقة قاسية، حيث تكون الأموال المدفوعة مجرد سراب يتلاشى بمجرد انهيار النظام، تاركًا وراءه ضحايا كُثرًا خسروا مدخراتهم وأحلامهم.

مخطط بونزي، الذي سُمي بهذا الاسم نسبةً إلى المحتال الشهير تشارلز بونزي في أوائل القرن العشرين، يعتمد على خدعة بسيطة ولكنها فعّالة: يتم إقناع المستثمرين الجدد بأن أموالهم ستُستثمر في مشاريع أو أنشطة مربحة، بينما في الواقع تُستخدم أموالهم فقط لدفع أرباح للمستثمرين السابقين، مما يجعل النظام يبدو ناجحًا. ومع استمرار دخول مستثمرين جدد، تستمر العجلة في الدوران، لكن بمجرد أن يتوقف تدفق الأموال، ينهار النظام بالكامل، ويجد الضحايا أنفسهم أمام حقيقة مؤلمة: لا استثمار حقيقي، ولا أرباح مستدامة، بل مجرد عملية احتيالية منظمة.

يجيد القائمون على هذه المخططات اللعب على نقاط ضعف البشر، فهم يستغلون الطمع، والرغبة في الربح السريع، وأحيانًا الجهل بقواعد الاستثمار السليم. تُزين عروضهم بكلمات مثل “دخل سلبي”، “فرصة العمر”، و”ضمانات مضمونة”، لكن الواقع مختلف تمامًا. سرعان ما يجد المستثمرون أنفسهم في مأزق، حيث تبدأ التأخيرات في صرف الأرباح، ثم يختفي القائمون على المشروع تمامًا، تاركين خلفهم سلسلة من الضحايا الذين لا يستطيعون استرجاع أموالهم.

ما يجعل مخطط بونزي يستمر في الظهور بأشكال مختلفة هو قدرته على التكيف مع الزمن. في الماضي، كان يعتمد على شبكات شخصية، أما اليوم فقد استغل القائمون عليه منصات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لجذب عدد أكبر من الضحايا. هناك من يُلبسه ثوب التكنولوجيا، مثل العملات الرقمية، وهناك من يقدمه على أنه نموذج أعمال مبتكر. لكن جوهره يبقى واحدًا: خداع قائم على استغلال أموال الضحايا الجدد لسداد القدامى، حتى تنهار المنظومة بالكامل.

ومع كل دورة جديدة لمخطط بونزي، تتغير الأسماء والتفاصيل، لكن المبدأ الأساسي يبقى ثابتًا: أرباح غير منطقية تُدفع من جيوب المستثمرين الجدد، لا من عوائد استثمارية حقيقية. وبمجرد أن يتباطأ تدفق الأموال أو يصبح عدد المشتركين الجدد غير كافٍ لتغطية التزامات الأرباح، يبدأ الانهيار. في البداية، يُبرر القائمون على النظام التأخير بأعذار مثل تحديث الأنظمة، أو صعوبات تقنية مؤقتة، أو إعادة هيكلة لضمان “استدامة” المشروع. لكن الحقيقة تكون أبسط وأقسى: الصندوق فارغ، ولا أموال كافية لدفع المستحقات.

الضحايا، بعد أن تلاشت أحلام الثراء السريع، يواجهون صدمة الواقع. بعضهم يدرك متأخرًا أنه كان جزءًا من مخطط احتيالي، بينما يتمسك آخرون بالأمل، مقتنعين بأن الأمر مجرد أزمة عابرة. وما يزيد الطين بلة أن بعضهم، بدافع اليأس أو محاولة تعويض الخسائر، يروج للنظام أمام أصدقائه وعائلته، مما يجعل الخسائر تمتد إلى دائرة أوسع من الأبرياء. وهكذا، يصبح الضحية نفسه شريكًا غير مباشر في نشر الخدعة دون أن يدرك.

لكن لماذا يستمر الناس في الوقوع في فخ بونزي رغم كل التحذيرات؟ ببساطة، لأن الطمع لا ينتهي، والأساليب الاحتيالية تتطور بمرور الوقت. في العقود الماضية، كانت هذه المخططات تأخذ شكل استثمارات تقليدية، ثم تحولت إلى شركات تسويق شبكي تدعي بيع منتجات حصرية، ثم جاءت موجة العملات الرقمية والمشاريع الوهمية التي تعد بعوائد فلكية. في كل مرة، يتم تغليف الفكرة القديمة بغلاف جديد يناسب العصر، لكنه لا يغير جوهرها الاحتيالي.

وربما يكون أكبر عامل في استمرار نجاح هذه المخططات هو الجهل المالي وضعف الثقافة الاستثمارية لدى الكثيرين. فبدلًا من البحث في آليات الربح الحقيقية، ينجذب البعض إلى العروض المغرية دون تفكير. لا يسألون: كيف يحقق هذا المشروع أرباحًا بهذا الحجم؟ أو ما الضمانات الفعلية التي تحمي أموالهم؟. إن غياب هذه الأسئلة هو ما يجعل خدعة بونزي قابلة لإعادة التشغيل مرارًا وتكرارًا.

لكن الحلول موجودة، وأولها التوعية المالية. يجب أن يدرك الناس أن الاستثمار الحقيقي لا يقدم وعودًا بالثراء السريع، بل يعتمد على العمل الجاد، التخطيط المدروس، والصبر. كما أن من واجب الحكومات والمؤسسات المالية اتخاذ إجراءات صارمة لملاحقة هذه الأنظمة قبل أن توقع المزيد من الضحايا. فكلما زادت الشفافية في الأسواق المالية، وصار الناس أكثر وعيًا بمخاطر العروض الاحتيالية، كلما قلت فرص نجاح المحتالين في إعادة تدوير مخططاتهم.

لا شيء يحمي الإنسان من الوقوع في هذا الفخ سوى الوعي المالي والتفكير النقدي. فقبل الاستثمار في أي مشروع، يجب التحقق من مشروعيته، ودراسة مصادر الربح، وسؤال المختصين. القاعدة الذهبية تقول: إذا كان العرض جيدًا لدرجة لا تُصدق، فهو غالبًا خدعة!. في النهاية، لا يمكن للمال أن ينمو من العدم، والاستثمارات الحقيقية تتطلب وقتًا وجهدًا، وليست مجرد لعبة يديرها محتالون بارعون في تسويق الوهم.

ورغم كل شيء، ستظل هناك دائمًا نسخة جديدة من بونزي، تنتظر أن يقع فيها من يبحث عن الربح السريع بلا مجهود. لكن السؤال الأهم يبقى: هل نتعلم من أخطاء الماضي، أم نظل نكرر نفس الدرس المؤلم مرة بعد مرة؟

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى