الفن الحقيقي رساله قبل ان يكون مصدرا لكسب المال
كتبت : رحمه جمال
الفن الحقيقى بكافة أشكاله رسالة قبل أن يكون مصدرًا للكسب والاسترزاق، وهو لسان حال المجتمع فى أوقات المحن والأزمات، وفى الأفراح والمسرات، هو جزء من حياة الشعوب؛ من خلاله يمكن أن تحكم على مدى رقى وتقدم منظومة القيم فى مجتمع ما.
فالمجتمع الذى يقدم فنونًا راقية، تسمو بالمشاعر الإنسانية، وتنير العقول، وتشكل الوعى، هو بالقطع مجتمع تحكمه منظومة قيمية سامية، والعكس صحيح؛ فحين يسود الإسفاف والفن الهابط، الذى لا هدف له سوى جمع الأموال، ويطغى على الذوق العام فى المجتمع، فأعلم أن هذا المجتمع يعانى خللا كبيرا فى منظومته القيمية.
وبهذا المعنى يرى الكثيرون أن الفن أحد أهم المصادر التى يعتمد عليها علماء علم الاجتماع للتأريخ الاجتماعى لشعب ما، فالفن الحقيقى هو الذى يرصد ويعكس حركة تطور المجتمعات صعودا وهبوطا عبر تاريخها، ولكن الفن دوره لا يتوقف عند هذه الحدود؛ فالفن أيضا يمكنه أن يؤثر سلبا وإيجابا فى تطور المجتمعات.
ولقد فطن رجال السياسة والحكم منذ فجر التاريخ لهذا الدور الذى يمكن أن يلعبه الفن فى التأثير على الشعوب، فحاولوا أن يسخروا الفنون للتعبير عن أفكارهم، والترويج لإنجازاتهم.
وفى العصر الحديث، ومع تطور وسائل الاتصالات والإعلام، التى جعلت من قدرة الفنون على الانتشار والتأثير أكثر قوة، وهو ما دفع الحكومات، والقوى السياسية، والاقتصادية، وغيرهم ممن يتوجهون برسالتهم للجمهور أن يحرصوا على أن يكون لهم ظهير إعلامى وفنى يعبر عن توجهاتهم، ويروج لأفكارهم
تعتبر (الفنون) هى أهم موارد الوعى الغير مباشر.
فكما نعلم أن الفنون المختلفة بداية من المسرح والشعر والأدب والموسيقى والغناء والتصوير والعمارة انتهاءً بالسينما كسابع أنواع الفنون وأحدثها إلى جانب الدراما التليفزيونية، ذات تأثيرات بالوجدان والوعى شديدة القوة، وتكمن تلك القوة بعدم مباشرتها.
إذ أن تذوق الفنون عندما تكون متسقة تتسم بالجمال وقوة المعنى ودقة التنفيذ، سواءً كانت مقطوعة موسيقية أو لوحة تشكيلية أو تصميم معمارى أو فيلم سينمائى أو قصيدة شعر أو عرض مسرحى أو مسلسل تليفزيونى، تصبح له قدرة غير عادية على اقتحام مشاعر ووجدان هذا المتلقى والتأثير بها تأثيرات متعددة قد تشكل وعياً مختلفاً أو تعمقه وتوضحه حيال فكرة أو موضوع ما.
لذا فالفنون المختلفة لها قدرة سحرية على ترسيخ وتأصيل قيم أخلاقية وجمالية لتتفوق على غيرها من مصادر تشكيل الوعى الأخرى.
فقد تمكنت الدراما من خلق القدوة المتمثلة بشخص البطل الشعبى فى عدد كبير من الأعمال السينمائية والتليفزيونية، والذى يخترق القلوب ويخلق مريدين يؤمنون به وبما يحمله من قيم وسلوكيات، سواء كانت شخصية هذا البطل تاريخية حقيقية أو محض خيال مؤلف.
لكن ما أود قوله أن هذا المؤلف لم يكن يخلق بأوراقه ملامح الشخصية التى تقود ملحمته التاريخية أو روايته الاجتماعية دون دراسة جيدة وقصد من وراء قصد أن تحمل هذه الشخصية من الرسائل والقيم ما يصيب قلوب وعقول المتلقين ليرسخ بداخلهم قدوة بعينها بما تحمله تلك القدوة من أخلاقيات وتوجهات وسلوكيات لابد وأن تكون حميدة نافعة، فتؤتى أكلها وتحقق أهدافها وتحدث التأثيرات المطلوبة دون توجيه أو مباشرة.
فتؤثر بوعى أجيال بعينها وتحدد لهم معاييراً أخلاقية تحكم المجتمع بشكل عام لتشكل أطراً للوعى المعيارى المبنى على قيم وتقاليد وأعراف يلتزم بها الجميع ومن يخرج عليها فقد خرج عن المقبول والمألوف.
و كما نعلم جميعاً أننا بمصر كنا ننفرد بأرقى وأسمى الفنون بمختلف أنواعها وألوانها ما امتد لعقود طويلة، قبل أن تضربنا بالعشرين سنة الماضية موجات متتالية من الركاكة والأعمال التجارية الفارغة من أية قيمة أو محتوى، والتى تأتى وتذهب لتحدث أثرين لا ثالث لهما.
إما أن تمر مرور الفراغ الذى يصيب بالملل ثم يذهب أدراج الرياح وهذا فى حالة عدم الضرر.
وإما أن يحدث تأثيرات سلبية شديدة الخطورة فى تشكيل وعى أجيال بعينها تمت محاصرة مداركها ووعيها بكافة أنواع الرداءة فى الموسيقى والغناء والدراما وحتى العمارة التى تعد أحد أنواع الفنون الجمالية ذات التأثيرات الغير مباشرة بوجدان ووعى الجماهير.
وغالباً هذا ما حدث بغفلة من الزمن تلك التى صاحبت منحنى الهبوط الذى بلغ أدناه بعقدين من الزمان اتسما بالفساد والتدنى بكل شئ وعلى كافة المستويات.
وما أن انتبهت الدولة وقيادتها لمدى خطورة الفنون بمختلف ألوانها على وعى وسلوك الأجيال الحالية التى افتقدت بحق القدوة ومعايير الخلق والجمال، حتى شنت حملة منظمة متوازية لإعادة إحياء الفنون الراقية التى انتبذت ركناً خفياً لتتوارى به، وتعيد تشكيل منظومة الإعلام والدراما باختلاف انواعها لتنقذ ما يمكن إنقاذه وتمحو آثار سنوات من الضلال قد أضلت أجيال تلوثت أسماعهم وأبصارهم وباتت قدوتهم البلطجى الشعبى الذى يحمل من القيم السلبية والموبيقات ما لا يصدقه عقل، هذا الذى قد حل محل البطل الشعبى بسنوات التضليل والضلال.
و بالفعل قد لاحت بالأفق بوادر الإصلاح ومحاولات الارتقاء بالفنون من جديد والتصدى لكل ما هو ردئ ،وعودة الحديث عن العمل التاريخى الملحمى وإنتاج بعض الأعمال الوطنية التى من شأنها عودة الانتماء وشحن المشاعر تجاه الوطن تلك التى كانت قد اختفت ولم يعد لها أيه وجود بقاموس مفردات الأجيال الجديدة.
النقد الفني علم ذو قواعد ومقاييس محددة ، وإن كان ، مثل كل شيء متطور . وليس من شروط النقد الفني أن يكون صاحبه فنانا . ولو كان فنانا لكان أكثر إجادة في تطبيق قواعد علم النقد على العمل الفني الذي ينقده .
غير أنه يستطيع بإجادة علم النقد ذاته أن يعوض الموهبة الفنية المفتقدة فيصبح ناقدا جيدا . ولكن ما هي غاية النقد الفني ؟.. ما هي مهمة الناقد ؟.. إنها الكشف عن توافر أو عدم توافر كل أو بعض عناصر الخلق الفني طبقا لقواعد ومقاييس علم النقد .. يكتشف أولا ماذا أراد الفنان أن يقول بعمله الفني .
ودوره هنا مقصور على الاكتشاف ، فليس من شأن الناقد أن يبتكر أو يفترض شيئا لم يرد الفنان التعبير عنه ، لأن هذا إلغاء للفنان وإحلال للناقد محله . ومحك التفوق في هذه الخطوة الأولى هي المقدرة على الموضوعية والتحرر من الإسقاط الذاتي ، حيث تكون أفكار الفنان ” موضوعا ” للاكتشاف وليس موضوعا للحوار مع الناقد ، ذلك لأنه عن طريق اكتشاف الموضوع كما هو ، يقدم الناقد إلي قرائه أول دليل عل أمانته وجدارته بموقع الناقد ، الذي هو قريب من موقع القاضي .
إذا تمت هذه الخطوة بنجاح ، يكون على الناقد أن يرى ، طبقا لمقاييس وقواعد علم النقد ، ما إذا كان صاحب العمل الفني قد استطاع ، أو لم يستطع ـ وإلى أي حد ـ التعبير عن أفكاره تعبيرا فنيا . نقول تعبيرا فنياً ، وليس مجرد التعبير، إذ أن ما يفرق الفن عن غيره من وسائل التعبير أنه تعبير ذو خصائص فنية وجمالية معينة .
وتمنح هذه الخطوة الثانية للناقد مجالا رحبا لمناقشة المضامين منفردة ، والمضامين مجتمعة ، والصيغة ، وتركيب البناء الفني ، وحتى حرية تقييم ملائمة أو عدم ملائمة الألفاظ ، أو الألوان ، أو المواد ، المستعملة في العمل الفني . كل هذا لينتهي إلى إجابة محددة ، ليس له الحق ـ كناقد ـ أن يتجاوزها : هل استطاع صاحب العمل الفني أن يعبر تعبيرا فنيا عن أفكاره وإلى أي مدى ؟ .
أخيراً وليس آخراً:
بانتظار عودة تدريجية نتمنى أن تكون سريعة للفنون المصرية الراقية بما ستعود به من قيم أخلاقية وجمالية وإنسانية لتطهر مدارك أجيال قد تلوثت وتغيبت وافتقدت القدوة والحق والخير والجمال وتعيد تشكيل وعيها على أسس سليمة ويتخذ المنحنى طريقاً جديداً آمناً للصعود.