تكنولوجيا

ثقافة الطعام الإنستجرامي: هل نأكل لنستمتع أم لننشر الصور؟

ثقافة الطعام الإنستجرامي: هل نأكل لنستمتع أم لننشر الصور؟

كتب د. وائل بدوى

في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، لم يعد الطعام مجرد وسيلة للبقاء أو تجربة حسية ممتعة، بل أصبح جزءًا من المحتوى الذي نستهلكه بصريًا قبل أن نتذوقه. فبفضل إنستجرام وتيك توك، لم يعد يكفي أن يكون الطعام لذيذًا، بل يجب أن يكون “فوتوجينيك”، أي جذابًا بصريًا، قادرًا على حصد الإعجابات والمشاركات. وهكذا، ولدت ثقافة الطعام الإنستجرامي، التي غيّرت طريقة تقديم الطعام، واختيار المطاعم، وحتى وصفات الطهي التي نفضلها.

الأكل لم يعد مجرد أكل، بل محتوى بصري!

هل سبق لك أن وجدت نفسك في مطعم فاخر، ورأيت شخصًا يقف على الكرسي ليأخذ الصورة المثالية لطبقه؟ أو ربما صديق لك لم يسمح لك بلمس الطعام قبل أن يلتقط له الصورة “المثالية”؟ هذا هو تأثير ثقافة الطعام الإنستجرامي، حيث أصبحت الألوان، التناسق، وزوايا التصوير أكثر أهمية من الطعم نفسه!

أمثلة على ظواهر الطعام الإنستجرامي

1. مشروبات الذهب الصالح للأكل

فجأة، أصبحنا نرى قهوة، شاي، وحتى عصائر مغطاة برقائق الذهب الصالح للأكل. هل لهذا الذهب أي نكهة؟ لا، لكنه يضيف لمسة من الفخامة والترف للصور. النتيجة؟ سعر مضاعف للمشروب فقط لأنه يبدو فاخرًا على إنستجرام.

2. ألوان الطعام غير الطبيعية

•الآيس كريم بلون أزرق مشرق

•اللاتيه باللون الوردي

•كعك بألوان قوس قزح

كل هذه الأطعمة لا تبدو طبيعية، لكنها تجذب الانتباه على إنستجرام، مما يجعلها تنتشر بسرعة. حتى لو لم يكن الطعم مختلفًا، فإن شكلها الفريد يكفي لجعلها “تريند”.

3. الأكل العملاق والمبالغ فيه

•البرجر الضخم الذي يحتاج لأربعة أشخاص لحمله

•البيتزا التي يبلغ قطرها مترين

•المشروبات التي تحتوي على عشرات المكونات والحلويات المكدسة فوقها

هذه الأطعمة قد تكون غير عملية، وربما حتى غير شهية، لكنها تحقق مشاهدات ضخمة وتثير الفضول، مما يدفع المطاعم إلى تقديم أطباق أكبر وأغرب لجذب الزبائن.

4. الحلويات “الانفجارية”

ظهرت حلويات جديدة تعتمد على عنصر المفاجأة، مثل الكعك الذي ينفجر عند قطعه ليُخرج شوكولاتة سائلة، أو الأكواب التي تذوب عند سكب الحليب الساخن عليها. الفكرة؟ ليست النكهة، بل لحظة التصوير المثالية.

5. الكوكتيلات الدخانية والمأكولات التي “تتفاعل”

أصبحنا نرى مشروبات ومأكولات مصحوبة بتأثيرات دخانية باستخدام النيتروجين السائل. هذه الأطباق مثيرة بصريًا وتجعل أي صورة على إنستجرام تبدو وكأنها تجربة علمية أكثر من كونها وجبة عادية.

تأثير ثقافة الطعام الإنستجرامي على المطاعم

لم تعد المطاعم تصمم قوائمها بناءً على المذاق فقط، بل أصبح المظهر أولوية. بعض المطاعم:

•تصمم أطباقها خصيصًا لتبدو جميلة في الصور، حتى لو لم تكن أفضل مذاقًا.

•تختار ألوان الإضاءة والجدران لتتناسب مع الصور الجذابة.

•تقدم أطباقًا غير عملية فقط لأنها ستجذب الانتباه عبر الإنترنت.

هل فقد الطعام وظيفته الأصلية؟

في خضم هذا الهوس بالتصوير والمشاركة، يبدو أننا أصبحنا نأكل بالكاميرا أكثر مما نأكل بفمنا! لم نعد نهتم بالطعم بقدر اهتمامنا بعدد الإعجابات التي سيحصل عليها طبقنا.

هل يمكن تحقيق توازن بين الجمال والمذاق؟

لا أحد ينكر أن الطعام الذي يبدو جميلًا يمكن أن يكون تجربة ممتعة بحد ذاته، ولكن المشكلة تظهر عندما يصبح الشكل أهم من الجوهر. السؤال هو: هل يمكننا الجمع بين الجمال والمذاق دون التضحية بأي منهما؟

بعض المطاعم تحاول تحقيق هذا التوازن من خلال تقديم أطباق جذابة بصريًا دون المبالغة في الغرابة أو التأثير على النكهة. فمثلًا:

•يتم استخدام المكونات الطبيعية لإضافة الألوان بدلًا من الأصباغ الصناعية.

•يتم الاهتمام بطريقة التقديم دون المبالغة في الزينة التي قد تؤثر على تجربة الأكل.

•يتم اختيار أطباق قابلة للتصوير، لكنها في نفس الوقت تظل عملية ولذيذة.

تأثير ثقافة الطعام الإنستجرامي على المستهلكين

مع انتشار هذه الثقافة، بدأ الناس يتأثرون بعادات الأكل بطرق لم تكن موجودة من قبل. من أبرز التغيرات التي طرأت على سلوك المستهلكين:

1.التركيز على المظهر بدلاً من المذاق: أصبح الناس أكثر اهتمامًا بكيفية تصوير الطعام أكثر من كيفية تذوقه.

2.ارتفاع أسعار بعض الأطعمة: نظرًا لزيادة الطلب على الأطباق “الإنستجرامية”، رفعت بعض المطاعم أسعارها بحجة تقديم تجربة بصرية فريدة.

3.تفضيل المطاعم “التريند”: بدلاً من البحث عن مطاعم تقدم طعامًا جيدًا، أصبح الاختيار يعتمد على أكثر الأماكن التي يتم تصويرها ومشاركتها على وسائل التواصل.

4.التقليل من الاستمتاع الحقيقي بالطعام: كم مرة طلبت وجبة شهية، لكنك تركتها تبرد أثناء محاولتك الحصول على “الصورة المثالية”؟

هل ستستمر هذه الظاهرة أم ستتلاشى؟

من المعروف أن الاتجاهات الغذائية تأتي وتذهب، لكن من الصعب توقع أن ثقافة الطعام الإنستجرامي ستختفي تمامًا، على الأقل في المستقبل القريب. طالما أن وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورًا أساسيًا في حياتنا، فإن الطعام سيظل جزءًا من المحتوى الذي نشاركه. ومع ذلك، قد نرى بعض التغيرات مثل:

•عودة التركيز على الجودة والمذاق بدلاً من الشكل فقط.

•ظهور اتجاهات جديدة أكثر واقعية تركز على البساطة والطعام التقليدي.

•تحسن وعي المستهلكين، بحيث يصبحون أكثر قدرة على التمييز بين التسويق الحقيقي والموضة المؤقتة.

في النهاية، هل أنت ضحية أم مستمتع؟

ليس هناك مشكلة في الاستمتاع بثقافة الطعام الإنستجرامي، ولكن علينا أن نسأل أنفسنا:

•هل نحن فعلاً نستمتع بوجباتنا أم نأكل فقط لإرضاء الكاميرا؟

•هل نحن نختار الأطباق بناءً على رغبتنا في التذوق أم بناءً على شكلها في الصور؟

•هل نشعر بالرضا بعد تناول وجبة جميلة، أم أن الإعجابات على الصورة هي ما يعطينا الشعور الحقيقي بالسعادة؟

إذا كنت لا تزال تستمتع بالطعام كما هو، دون أن تشعر بالحاجة إلى توثيق كل لقمة، فأنت ما زلت تحتفظ بعلاقة صحية مع الأكل. أما إذا كنت تجد نفسك غير قادر على تناول أي وجبة دون التقاط صورة أولًا، فقد يكون الوقت قد حان لإعادة التفكير في علاقتك بالطعام!

 الجمال في الطعام قد يكون ممتعًا، لكن المذاق هو الذي يبقى في الذاكرة. فهل ستستمر في البحث عن الأطباق الفوتوجينية، أم ستختار الاستمتاع بتجربة الطعام كما كانت قبل عصر السوشيال ميديا؟

في النهاية، السؤال الحقيقي هو:

هل تأكل للاستمتاع بالطعام، أم لتشارك صورته؟

وهل أصبحنا نحكم على جودة المطاعم بعدد الصور الجميلة التي تُلتقط فيها، وليس بجودة الطعام نفسه؟

ربما حان الوقت لنضع الهاتف جانبًا ونستمتع بوجباتنا كما كانت من قبل… ساخنة، طازجة، وبعيدة عن عدسات الكاميرا!

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى