” صِفُّورة ” زوجة نبى الله موسى
كتب ايهاب ودن
ما إن وكز سيدنا موسى عليه السلام، القبطي الذي كان يتشاجر مع رجلا من شيعته، فقضى عليه؛ حتى جاءه الناصح إن القوم يأتمرون به ليقتلوك فاخرج.
فخرج سيدنا موسى خائفًا يترقب بلا زاد ولا ماء ٨ أيام حتى وصل إلى مدّيَن لتبدأ قصته مع الرجل الصالح ومع الفتاتين اللتين منهما زوجته الكريمة.
﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾
ما أروع الحوار والنقاء والحياء في هذه اللفتة المباركة، وصل إلى مكان سقيا أهل مدّين والناس تسقي ماشيتها، ومن دونهم امرأتان تردان غنمهما عن السقيا مع القوم فتعجب!!
فسألهما ما القصة؟ فجاءه الرد مختصرًا شافيًا كافيًا بلا تودد ولا ابتسام ولا فتح مقال للوئام (لا نزاحم القوم) وحتى لا يسألهما عن سبب الخروج أكملتا العلة (لأن أبونا شيخ كبير، فليس لنا من يعولنا).
ما أروع المرأة التى إن اضطرت للعمل تستطيع أن تحفظ حيائها وأنوثتها بعدم مزاحمة الرجال، وإن تحدثت لم تخضع بالقول فيطمع الذى في قلبه مرض.
اختلف العلماء في الفتاتين؟ ومن أبوهما؟ هل هو شعيب النبي -عليه السلام- أو هو رجل صالح؟
ورجح ابن كثير، والسعدي في تفسيريهما أنه ليس بشعيب، وذكر جماعة من المفسرين أن هذا الرجل هو شعيب _وهذا ترجيح القرطبي_، وأن المرأتين بناته وأن اسم إحداهما ليا والأخرى صفوريا.
وقيل إنه يثرون ابن أخ شعيب عليه السلام، وقيل بل هو رجل صالح من أهل مدين لا يُعلم اسمه، وأن سيدنا شعيب زمانه متقدم على زمان سيدنا موسى وأنه أقرب إلى زمن سيدنا ابراهيم وسيدنا لوط.
لكن هذا الاختلاف لا ينقص من قدر القصة في حسن تربية البنات وقيمة العِفة والحياء في النساء وتقدير الأب لرأي المرأة والأخذ به.
تستمر القصة.. عادت الفتاتان سريعًا وقد سقا لهما سيدنا موسى، وبالطبع رجوعهما سريعًا إلى أبيهما خلاف ما اعتادتا عليه كل يوم أثار استغرابه فقصتا عليه قصة الشاب الشهم الذي ساعدهما بلا مقابل.
لذا بعث إحدى ابنتيه لتستدعيه، فجاءت الفتاة تخطو بخطوات ملؤها الحياء والعفة، وكأنها من شدة حيائها لم تمشِ على قدميها بل على حيائها!
(فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)، كان يبدو علــيها بوضوح أنّها تستحي من الكلام مع شاب غريب اضطرتها الظروف للحديث معه مرتين.
فكانت معرضة في الكلام كما تفعل كل حرة تتصف بالحياء ولم تزد الكلام على جملة واحدة: (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا)
فذهب معها وفي الطريق إلى البيت كانت الفتاة تسير أمام موسى، وكان الهواء يحرّك ثيابها وربّما انكشف ثوبها عنها، ولكن موسى لِما عنده من عفة وحياء طلب منها أن تمشي خلفه وأن يسير هو أمامها.
فإذا ما وصلا إلى مفترق طرق تدله وتخبره من أي طريق يمضي، تقول الروايات أنه قال لها: (وجهيني إلى الطريق وامشي خلفي فإنّا بني يعقوب لا ننظر في أعجاز النساء)
فعرفت الفتاة ما الرجل من عفة وحياء وأمانة، بالإضافة لما لاحظت من قوته حين رفع الحجر وحده عن البئر وسقا لهما وحده.
فبادرت أباها بالقول وبعبارة موجزة: إنّني أقترح أن تستأجره (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ)
وافق الأب الصالح الذى يثق فى ابنته ورأيها وعقلها وعفتها على اقتراح ابنته، وتوجه إلى موسى عارضًا عليه الزواج باحداهما ليعلي قيمة أن تحسن الاختيار لابنتك ولو كان غريبًا ليس من بلدك مادمت ترى فيه الصلاح
(قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ الله مِنْ الصَّالِحِينَ)
ولأن موسى يعرف قيمة الحياء وحسن التربية وعفة الفتاتين لم يغلها المهر في أن يرعى الغنم ٨ أعوام كاملة، بل أتمها ١٠، فمن يطلب الحسناء لم يغلها المهر، وما أروع الحسن إن كان حياءً وأدبًا وعفة.
واختار موسى الصغرى صفوريا التى قالت استأجره وأتم السنوات العشر حتى صارت أهله وخرج بها عائدًا إلى مصر، لتصحبه فى الرحلة الصعبة المظلمة بين مطر وبرد ويسجل كتاب الله صحبتها له فى رحلته:
{فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلۡأَجَلَ وَسَارَ بِأَهۡلِهِۦٓ ءَانَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَارٗاۖ قَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ جَذۡوَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ}
وأصبحت الفتاة الصالحة زوجة نبي الله موسى زوجة أحد أولو العزم وكليم الله، وكيف لا وقد تربت في حجر النبوة إن كان أبوها شعيبًا أو حجر الرجل الصالح إن كان غيره.
فكان فيها من الحياء ليغلي مهرها ومن الذكاء أن تقترح على أبيها استئجار الرجل القوي الأمين والذى كان فيه مصلحتها وخير أهلها..
وكان جزاءها أن خُلّد ذكرها فى آيات القرآن الكريم.