تكنولوجيا

عندما تُجادل إيبيستيمولوجيا الإنسانيات الرقمية: معضلة العقل في عصر “اللا-عقل”

عندما تُجادل إيبيستيمولوجيا الإنسانيات الرقمية: معضلة العقل في عصر “اللا-عقل”

كتب د  وائل بدوى

منذ لحظات، وبينما كنت أقلب في زوايا الواتس اب المتصله بالإنترنت العشوائية – حيث يتصارع القديم والجديد في حلبة مفتوحة لا تخضع لأي قانون منطقي – وصلتني مقالة قديمة، نُشرت منذ أكثر من أربع سنوات. لا أعلم كيف سقطت في يدي، أو بالأحرى، كيف قفزت نحوي، كأنها فخ نُصب بعناية ليختبر قوة تحملي المعرفي.

بدأت أقرأ. الجملة الأولى مرت بسلام، الثانية بدأت تثير الشكوك، أما عند منتصف الفقرة الثالثة، فقد توقف عقلي عن العمل، معلناً الإضراب. لماذا؟ لأن المقال كان يناقش إيبيستيمولوجيا الإنسانيات الرقمية، وكأنه موضوع عادي يمكن تناوله مع القهوة الصباحية، أو كأنه وصفة طعام خفيفة لوجبة فكرية سهلة الهضم.

إيبيستيمولوجيا ماذا؟

حاولت إعادة تشغيل مخي البشري، لكن دون فائدة. قررت أن أعود خطوة إلى الوراء وأتأكد أنني لم أفتح بالخطأ أطروحة دكتوراه لشخص فقد السيطرة على لغته الأم أثناء الكتابة. لكن لا، إنها مقالة رأي، بل وتحمل طابعًا تحليليًا عميقًا – من ذلك العمق الذي كلما تعمقت فيه أكثر، زاد احتمال أن تصل إلى قاع الفهم المطلق، أو إلى قاع فقدان الوعي المعرفي التام.

الإنسانيات الرقمية؟ لا بأس، نحن نعرف أن الرقمنة اجتاحت كل شيء، حتى الأدب والفلسفة والتاريخ، فصار علينا أن نتعامل مع نسخة “ما بعد حداثية” من أرسطو في شكل خوارزمية، ومع نسخ منقحة من ديكارت مدعومة بالذكاء الاصطناعي. لكن إيبيستيمولوجيا الإنسانيات الرقمية؟ هنا وصلت الأمور إلى مستوى آخر من التعقيد، حيث أصبح من الواضح أن الكاتب قد تجاوز بُعد الزمكان المعرفي إلى مستوى لا يمكن قياسه حتى بأدق الأدوات الفلسفية.

عندما تُجادل إيبيستيمولوجيا الإنسانيات الرقمية: معضلة العقل في عصر “اللا-عقل”
عندما تُجادل إيبيستيمولوجيا الإنسانيات الرقمية: معضلة العقل في عصر “اللا-عقل”

الإنسان الرقمي أم الرقمنة الإنسانية؟

حاولت أن أتماسك وأكمل القراءة، لكنني وجدت نفسي محاصراً بسلسلة من الأسئلة الوجودية:

•هل يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي كائناً معرفياً؟

•هل يمكن للإنسانيات الرقمية أن تكون “إنسانية” فعلًا، أم أنها مجرد محاكاة ساخرة لجهود الماضي؟

•هل نحن أمام ثورة معرفية أم مجرد تحولات شكلية يفرضها التسويق الأكاديمي العصري؟

لم أجد إجابات، لكنني وجدت نفسي أمام جدلية أخرى: هل المشكلة في المحتوى نفسه، أم في عقلي البشري المحدود، الذي لم يطور بعد تحديثًا يلائم هذا النوع من الطرح الفلسفي؟ هل يجب أن أستسلم وأقبل بأن “الإنسانيات الرقمية” هي حقيقة لا تقبل الجدال، تمامًا كما قبلنا أن الكلمات المفتاحية والـSEO صارت تتحكم في عالم الكتابة أكثر من الإبداع ذاته؟

عندما تُجادل إيبيستيمولوجيا الإنسانيات الرقمية: معضلة العقل في عصر “اللا-عقل”
عندما تُجادل إيبيستيمولوجيا الإنسانيات الرقمية: معضلة العقل في عصر “اللا-عقل”

نظرت إلى الفراغ قليلًا، ثم قررت أن أخرج لأستنشق بعض الهواء غير الرقمي، لعلني أتمكن من إعادة تشغيل نظامي الفكري مرة أخرى. لكنني كنت أعلم، في قرارة نفسي، أنني لن أتمكن من التهرب طويلًا، فالمقالة قد تكون قديمة، لكن أسئلتها باقية، تتجدد مع كل نقرة، ومع كل تحديث، ومع كل محاولة إنسانية لفهم العالم الرقمي الذي يبدو أنه فهمنا أكثر مما فهمناه.

عندما قررت أن أخرج لاستنشاق بعض الهواء، كنت أتوهم أنني أهرب من الأسئلة الفلسفية الثقيلة التي طاردتني بعد قراءة المقال. لكن الحقيقة كانت أكثر قسوة: الإنسانيات الرقمية لم تعد مجرد موضوع في مقال أكاديمي غامض، بل تحولت إلى كيان يطاردني في كل مكان.

وأنا أعبر الشارع، وجدت إعلانًا رقمياً ضخماً يعرض كتابًا جديدًا عن “مستقبل الهوية الثقافية في العصر السيبراني”، وكأن الثقافة صارت بحاجة إلى كود برمجي لتحديث هويتها. عند مقهى قريب، سمعت مجموعة شباب يناقشون آخر إصدار من تطبيق لتحليل الأعمال الأدبية باستخدام الذكاء الاصطناعي، والذي يدعي أنه قادر على فهم النصوص الشعرية أفضل من الإنسان. بل إن أحدهم، بكل ثقة، قال إن الخوارزميات اليوم تستطيع تأويل أعمال نيتشه أكثر دقة من أساتذة الفلسفة.

وهنا، عادت إليّ الأزمة مجددًا: هل نحن أمام عصر جديد يُكتب فيه تاريخ المعرفة من قبل الآلات، بينما نحاول نحن – البشر – جاهدين أن نفهم ما أنتجته تلك الآلات؟ هل أصبحنا متطفلين على عالم رقمي لم يعد بحاجة إلينا إلا كمستهلكين؟

الإنسانيات الرقمية: ديستوبيا فكرية؟

عندما ظهرت “الإنسانيات الرقمية”، كانت الفكرة تبدو واعدة: استخدام التكنولوجيا لتوسيع أفق الدراسات الإنسانية، وتمكين الباحثين من تحليل النصوص التاريخية بطرق جديدة، وإعادة بناء الأحداث باستخدام البيانات الضخمة، وحتى دراسة الأنماط السردية عبر العصور باستخدام الذكاء الاصطناعي. ولكن شيئًا فشيئًا، بدا أن الأمر تحول إلى ما يشبه “استيلاء رقمي” على الفكر البشري.

لم نعد نناقش النصوص بل نناقش تحليل الخوارزميات لها. لم نعد نُقيّم الفن بناءً على إحساسنا به، بل بناءً على معدلات التفاعل الرقمية والـ”engagement rates”. لم نعد نبحث عن الحقيقة، بل نبحث عن الأكثر انتشارًا على تويتر.

في لحظة من التبصر، أدركت أن المقالة التي قرأتها قبل ساعات لم تكن المشكلة، بل أنا. لقد كنت أحاول فهمها بمنطق ما قبل الرقمنة، بمنطق يتوقع أن المعرفة تُبنى من خلال التأمل والنقاش البشري، لا من خلال تدفق البيانات وتدريب النماذج اللغوية العملاقة.

المصالحة (أو الاستسلام؟)

عدت إلى المنزل، وأعدت قراءة المقالة مرة أخرى، لكن هذه المرة بعقلية مختلفة: ربما لم يكن الهدف أن أفهمها بالكامل، بل أن أدرك أنني جزء من معركة فكرية أكبر. معركة بين العقل البشري الذي يريد أن يحافظ على سيطرته على المعرفة، والعقل الاصطناعي الذي يزعم أنه قادر على تجاوزنا، بل وربما استبدالنا.

لم أتوصل إلى إجابة نهائية، لكنني قررت أن أتوقف عن مقاومة الواقع الجديد. إذا كانت الإنسانيات الرقمية تفرض علينا لغة جديدة للفهم، فلنحاول على الأقل تعلمها – لا لنتبناها بالكامل، ولكن لنحافظ على حقنا في الجدال، ولو على الأقل كي لا نتحول نحن أنفسنا إلى مجرد بيانات في مشروع بحثي ضخم عن “الإنسان الما قبل رقمي”.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى