مصر تخطو نحو المستقبل: إطلاق فعاليات تقييم جاهزية الذكاء الاصطناعي المسؤول بالتعاون مع اليونسكو

مصر تخطو نحو المستقبل: إطلاق فعاليات تقييم جاهزية الذكاء الاصطناعي المسؤول بالتعاون مع اليونسكو
كتب د. وائل بدوى
في خطوة تعكس التزام الدولة المصرية بمواكبة التحولات التكنولوجية العالمية، أطلقت وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، فعاليات تقييم جاهزية مصر لتبني الذكاء الاصطناعي المسؤول، فيما يُعد انطلاقة نوعية لتعزيز مكانة مصر في مجال الذكاء الاصطناعي على المستويين الإقليمي والدولي.
شهدت القاهرة في السابع عشر من فبراير 2025، بداية هذه الفعاليات التي تهدف إلى تقييم استعداد الدولة المصرية لاستيعاب تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتوظيفها بطريقة مستدامة ومسؤولة، بما يحقق التوازن بين تحقيق التنمية وحماية حقوق الأفراد. وقد جاءت هذه الخطوة في إطار منهجية تقييم الجاهزية الوطنية للذكاء الاصطناعي (RAM) التي أطلقتها اليونسكو، وهي منهجية تستهدف مساعدة الدول على قياس مدى توافق بنيتها التشريعية والمؤسسية والثقافية مع متطلبات توظيف الذكاء الاصطناعي بطريقة آمنة وأخلاقية.

وقد افتتح الدكتور عمرو طلعت، وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، فعاليات المشاورات الوطنية بحضور نخبة من المسؤولين الحكوميين، وممثلي القطاع الخاص، وخبراء أكاديميين، وأعضاء المجتمع المدني، ورواد أعمال شباب، ليؤكد أن مصر بدأت منذ عام 2019 الاهتمام بشكل مكثف بملف الذكاء الاصطناعي، وأطلقت نسختها الأولى من الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي، التي وضعت بناء الكوادر البشرية المدربة على هذه التقنيات في صدارة أولوياتها.

وأشار الوزير إلى أن التعاون الوثيق بين وزارة الاتصالات ووزارة التعليم العالي أثمر عن إنشاء 12 كلية متخصصة في الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى تأسيس جامعة مصر للمعلوماتية، كأول جامعة متخصصة في الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات على مستوى القارة الأفريقية، وهو ما يُترجم إيمان الدولة بأن الاستثمار في العقول هو السبيل الأمثل نحو تحقيق التنمية المستدامة.
لم يكن الاهتمام بالكوادر البشرية هو المحور الوحيد في استراتيجية الدولة، بل امتد ليشمل تأسيس مركز الابتكار التطبيقي، الذي يُعد حاضنة لمشروعات بحثية تطبيقية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتطوير حلول تكنولوجية في قطاعات حيوية، منها الزراعة، والرعاية الصحية، والتعرف على اللغة العربية بمختلف أشكالها، سواء الفصحى أو العامية، وتطوير تطبيقات لتحويل النصوص بين الصوت والكتابة والترجمة الفورية إلى لغات عدة.
وأكد الدكتور عمرو طلعت خلال كلمته، على أهمية التوازن في تداول البيانات، مشدداً على ضرورة إيجاد إطار حوكمي يضمن حماية خصوصية المواطنين من جهة، ويدعم في الوقت ذاته منظومات الذكاء الاصطناعي لتواصل الابتكار. فقد باتت البيانات بمثابة “الوقود” الذي يحرك تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وبالتالي فإن حرية تدفقها مع توفير الحماية اللازمة يشكلان معاً الركيزة الأساسية لتطوير حلول فعالة دون المساس بحقوق الأفراد.
وأشار الوزير إلى أن هذا التوجه أثمر عن إطلاق “الميثاق المصري للذكاء الاصطناعي المسؤول” عام 2023، الذي كان له دور ملموس في تحسين تصنيف مصر في مؤشرات الذكاء الاصطناعي العالمية، حيث تقدمت البلاد 50 مركزاً خلال الفترة من 2020 إلى 2024، في مؤشر الأداء الخاص بالذكاء الاصطناعي.
وفي إطار الانفتاح المصري على الساحة الدولية، أوضح الوزير أن مصر لعبت دوراً محورياً في صياغة “الرؤية العربية الموحدة للذكاء الاصطناعي”، كما قادت جهود إعداد “استراتيجية الذكاء الاصطناعي القارية” داخل الاتحاد الأفريقي، وهو ما يؤكد حرص الدولة على المشاركة في رسم ملامح مستقبل الذكاء الاصطناعي في المنطقتين العربية والأفريقية.
وأعلن الوزير عن إطلاق النسخة الثانية من الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي في يناير 2025، التي ترتكز على ستة محاور رئيسية، تشمل تعزيز البنية التحتية الحوسبية، وتحقيق التوازن في تداول البيانات، وتوسيع قاعدة التدريب وتنمية المهارات، وبناء تطبيقات تعتمد على هذه التقنيات، ورفع مستوى الوعي المجتمعي بأهمية الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى وضع إطار حوكمي ينظم هذه المحاور، لضمان تعظيم المكاسب الاقتصادية والاجتماعية مع الحد من المخاطر التقنية والأخلاقية.

وفي السياق ذاته، أكدت السيدة جابرييلا راموس، مساعد المدير العام لليونسكو، أن هذه الفعالية تمثل خطوة فارقة نحو بناء أنظمة ذكاء اصطناعي تُدار وفقاً لأطر قانونية واضحة، تضمن تعظيم الفوائد الاقتصادية والاجتماعية، مع تقليل التداعيات السلبية. فيما أعربت الدكتورة نوريا سانز، المدير الإقليمي لمكتب اليونسكو بالقاهرة، عن تطلع المنظمة لتوثيق التعاون مع وزارة الاتصالات المصرية، لدعم المرحلة الثانية من الاستراتيجية الوطنية، التي تُولي الاعتبارات الأخلاقية اهتماماً مركزياً.
إن هذه المشاورات الوطنية لا تمثل مجرد لقاءات شكلية، بل تعد امتداداً لنهج الدولة القائم على إشراك جميع أصحاب المصلحة في عملية صنع القرار، لتأسيس منظومة ذكاء اصطناعي تتوافق مع متطلبات التنمية، وتحترم حقوق الإنسان، وتُحقق الاستفادة القصوى من الإمكانات الهائلة لهذه التكنولوجيا.
وتأتي هذه الجهود متماشية مع رؤية “مصر الرقمية”، التي تسعى إلى استخدام التكنولوجيا كأداة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وخلق بيئة استثمارية جاذبة، وتعزيز مكانة مصر كمركز إقليمي لصناعة الذكاء الاصطناعي في أفريقيا والشرق الأوسط.
وبينما تنطلق مصر بخطى ثابتة نحو المستقبل الرقمي، تظل التحديات قائمة، وعلى رأسها ضرورة خلق ثقافة مجتمعية تدرك أهمية الذكاء الاصطناعي، ليس فقط كأداة تقنية، بل كقوة دافعة لتطوير كافة مناحي الحياة. ولعل نجاح هذه المبادرة، سيكون مرهوناً بقدرة الدولة على بناء منظومة متكاملة تُحقق التوازن بين الابتكار، والعدالة، وحماية الخصوصية، لتصبح مصر نموذجاً يُحتذى به في تطبيقات الذكاء الاصطناعي المسؤول.
كلمه المحرر
يشهد العالم اليوم سباقًا متسارعًا نحو توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في مختلف مناحي الحياة، وبينما تتطلع الدول إلى جني ثمار هذه الثورة الرقمية، تظل التحديات الأخلاقية والقانونية المتعلقة بحماية الخصوصية وضمان حيادية البيانات شاغلًا أساسيًا. من هنا، تأتي أهمية الخطوة التي اتخذتها مصر بالتعاون مع منظمة اليونسكو لإطلاق تقييم جاهزية الدولة لتبني الذكاء الاصطناعي المسؤول.
ما يميز هذه المبادرة ليس فقط سعيها إلى دمج الذكاء الاصطناعي في القطاعات الحيوية، بل حرصها على تحقيق التوازن بين الابتكار التكنولوجي من جهة، وحقوق المواطن وحماية بياناته من جهة أخرى. فنجاح أي منظومة رقمية حديثة لا يقاس فقط بمدى تطورها، بل بقدرتها على تعزيز ثقة المواطن بها، وإرساء قواعد الحوكمة والشفافية.
ومع إطلاق النسخة الثانية من الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي، يتأكد أن مصر تمضي بخطى واثقة نحو بناء مستقبل رقمي أكثر ذكاءً، يضع الإنسان في قلب المعادلة، ويجعل التكنولوجيا وسيلة لتحقيق التنمية المستدامة، لا غاية في حد ذاتها. فالمستقبل لم يعد بعيدًا، بل هو حاضر نصنع ملامحه اليوم.