جموح “المؤثرين”..وحتمية المسؤولية الاجتماعية!
بقلم د.خالد محسن
أمست ظاهرة المؤثرين ومن يمتلكون صفحات ومنصات قوية، بها ملايين المتابعين علي مختلف منصات التواصل الاجتماعي،
من الظواهر الإعلامية والمجتمعية الجديدة التي تتطلب وقفات عديدة قبل فوات الآوان، لما تحمله من أبعاد ومؤشرات ودلالات !.
ولا يختلف اثنان علي تزايد آفات ومقابح ثلة كبيرة من المؤثرين علي مختلف شبكات التواصل، نتيجة الاستخدام الخاطيء والبحث طوال الوقت عن الإثارة المصطنعة والمبالغة في توصيف الاحداث،وأحيانا التضليل لحصد المزيد من المتابعين والتعليقات ،ومن ثم تحصيل المزيد من الأموال علي حساب قيم وخصوصيات الناس !.
كما تتفاقم هذه الظاهرة المقلقة يوما بعد يوم ،مع غياب تشريعات وقوانين وضوابط صارمة وقواعد منظمة تحدد ماهية من له الحق في صناعة المحتوي الرقمي البديل، ومن يتصدى لهذه المهمة ،وطبيعة مؤهلاته وجداراته،ومن ثم يسهل حسابه ومسائلته أمام القانون وأمام المجتمع،وأمام الضمير الإنساني بقيمه العامة والخاصة.
وامثلة التجاوزات لا تعد ولا تحصى، تصدرتها مؤخرا صاحبة الفستان الأزرق،والتي انتشرت ڤيديوهاتها كالنار في الهشيم،عارضة “وصلة رقص” مبتذلة بأحد الافراح..
وقد تسببت هذه اللقطات في طلاقها، وفقا لما ذكرته بعض المواقع وهدم أسرة كانت تنعم بالاستقرار، أفسدت عليها “الميديا الجديدة” حياتها، بصرف النظر عن تصرفاتها الخاطئة وتجاوزها في الرقص، وضرورة مراعاة الذوق والآداب العامة أثناء المشاركة في الاحتفالات والمناسبات الاجتماعية.
مثال آخر استفز مشاعر الناس ،حيث تفنن أحد رواد منصات التواصل في تصوير عدة فيديوهات لوالده أثناء وقبيل الاحتضار ،مسجلا وموثقا لحظات وداعه للدنيا ،بلا أدني مراعاة لخصوصية مرضه وحرمة الميت ،والنتيجة حصد ملايين المشاهدات ،تحت ستار طلب الدعاء له بالرحمة!.
لقد كان من حسنات الإعلام التقليدي عبر روافده المختلفة، الالتزام بقدر كبير من الدقة والموضوعية والمصداقية والحيادية والتحلي بالمسؤولية الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية.
ويدعم تلك الإطر والضوابط المحصنة قوانين ولوائح، تنتصر لقيم المجتمع وثوابته، مع قدرة المتلقي علي تجنب الرسائل المزعجة والانصراف عنها ،وفقا لخاصية التعرض الانتقائي، وأحيانا قد يعدل المرسل من رسالته، وفقا لآليات الاستجابة، “التغذية الراجعة”، أو التأثير المرتد العائد من الجمهور المستهدف.
ومع سيل الإعلام الجديد الجارف فقد تبدل الحال ،وأصبح وأمسي الناس علي موعد من عشرات القصص المأسوية ،ضحايا هذه المنصات المغرضة،حصاد تهور وتجاوزات هؤلاء المؤثرين.
ومع غياب آليات ضبط هذه المنظومة،وتوظيف تقنيات وخوازميات الذكاء الاصطناعي للتفنن من الإفلات من
المحاسبة القانونية ،وبين عشية وضحاها وجد هؤلاء المنتفعين أنفسهم قادة للرأي العام ، بعد سمحت لهم “الميديا الجديدة”، بالانطلاق إلي عوالم افتراضية متنوعة،يحملون رسائل موازية وعشوائية ومكثفة لإعلام له قوانينه النفعية الخاصة.
وفي سياق استيعاب متطلبات العصر ومستجدات ،أتصور أنه من الحكمة دمج هؤلاء المؤثرين مع روافد إعلام الدولة المسؤول أو الإعلام الخاص ،واستيعاب
منصات الإعلام البديل ،والبحث عن آلية واضحة المعالم للتدريب والرقابة ،تجنبا لهذه السلبيات وتلك المقابح المتزايدة.
وفي تقديري أن هناك ضرورة ملحة لإجراء المزيد من الدراسات الأكاديمية،حول طبيعة العلاقة بين المؤثرين الاجتماعيين وجمهور المتابعين، باعتبارها أهم الإشكاليات البحثية، بعد ما أضحى للمؤثرين مكانة اجتماعية واسعة بالنسبة لشركات الاتصالات الحديثة ووكالات الإعلان وقنوات الإعلام التقليدية، نظرا لمهارتهم في مخاطبة الجمهور وقدرتهم علي الاقناع ودعمه بمختلف الأفكار والمنتجات الاستهلاكية، التي يروجون لها بصرف النظر عن بعدها القيمي.
كما أن هناك حتمية مجتمعية لتوظيف نتائج الأبحاث والدراسات العلمية وتوصيات المؤتمرات التي ناقشت هذه الظاهرة ، بهدف ضبط إيقاعها وترشيدها في سياق النسق الاجتماعي العام.
واعتمادا علي “المنهج العقلي المنطقي الاستنباطي” في تفحص عينة من الكتابات العلمية والصحفية التي سعت إلى تفسير هذه الظاهرة، توصلت النتائج إلى تكاملية العلاقة بين المؤثرين الاجتماعيين وجمهور المتابعين، مع ترجيح قوة الأخير لعوامل تقنية محضة.
وفي هذا السياق ناقش مؤتمر كلية الإعلام الثامن والعشرين مؤخرا ظاهرة المؤثرين ،وتحديات الإعلام الرقمي ، تحت عنوان “صناعة المحتوى الإعلامي في العصر الرقمي: اﻵليات والتحديات”، وتضمنت الفاعليات حلقة نقاشية تحت عنوان “المؤثرون بين حرية التعبير وحدود قوة التأثير والمسؤولية الاجتماعية”.
وقد ناقش بعض الأكاديميين والممارسين حدود تأثير ظاهرة “المؤثرين”،وطالبوا بالاستفادة من إيجابيات الظاهرة ،ومعالجة جوانبها السلبية وليس منعها.
وكشفت المناقشات أن المؤثرين هم من يقودون بيئة الإعلام الرقمي ،استطاعوا سحب البساط من وسائل الإعلام، كما أطاحت الظاهرة باحترافية المحتوى المقدم للجمهور ،ويجب استحداث نظريات علمية جديدة للتعامل مع ظاهرة المؤثرين الجدد ، مع ضرورة تدشين مشروع قومى ضخم لتدريب الناس على التعامل مع وسائل الإعلام الجديدة.
وقدمت د.هبة السمري عميد كلية الاعلام جامعة النهضة عرضا تقديميا تحت عنوان: “المؤثرون في مواقع التواصل الاجتماعي..حدود التأثير”، مشيرة إلى أنهم أصبحوا حديث العالم ،مشيرة إلي النماذج الإيجابية في مجال تعليم الصم والبكم وفي مجال التوظيف كنماذج إيجابية، منوهة في الوقت ذاته إلى وجود نماذج سيئة.
كما أشارت إلى تنوع تصنيفات المؤثرين في مجال بيئة التواصل الاجتماعي ما بين المشاهير والمؤثرين ،وأيضا المخادعين، حيث أثبتت الدراسات الميدانية وجود 4 من كل سبعة مؤثرين يقومون بظاهرة شراء التأثير لهم ،والمتابعة من جماهير تتابعهم على غير الحقيقة !.
وكشفت د.السمري عن وجود المؤثرين المفترضين المنتجين عبر الذكاء الاصطناعي وعبر الشخصيات الوهمية التي يخترعها أصحابها مثل عرائس “الماريونت”، وغيرها.
وأشارت إلي أن الأهداف الخاصة بمتابعة المؤثرين هي تأثيرهم باللغة البسيطة في الخطاب الإعلامي ، وكذلك قدراتهم الواسعة في المجال التسويقي حيث استطاعوا مناقشة قضايا مختلفة ،والرد على المواطنين، بناء ثقة بينهم وبين الجمهور منوهة للتأثيرات السلبية للمؤثرين كحضور نماذج مكذوبة على غير الموجودة في الواقع، ومحاولة التأثير على صانع القرار بصورة سلبية.
وأوصت بضرورة منع مكافحة ظاهرة شراء الاعجابات للحد من سلبيات الظاهرة المؤثرين على المدى البعيد، إضافة إلى ضرورة التوعية الجماهيرية للتحقق من المحتوى،والتفرقة بين الجيد والردئ.
وخلال كلمتها بالحلقة النقاشية، نوهت. د. هبة شاهين، عميد كلية الإعلام عين شمس، إلي أن ظاهرة المؤثرين لم يعد لها علاقة بالإعلام فقط، ولكنها أيضا أثرت في مجال التسويق والسياسة والاتصال وعلم النفس والاجتماع، فيمكن تسمية القرن الـ 21 “عصر التواصل الاجتماعى”، حيث أصبح المؤثرون هم قادة رأى بمفهوم جديد، فدائما ما كان تأثير وسائل الإعلام رأسي، حيث تمتلكها الدول ،وتوجه المعلومات والتأثير من الأعلى للأسفل، لكن اليوم نحن أمام إعلام عكسي يأتى فيه الاتصال من أسفل لأعلى.
كما أشارت إلي أن العديد من مفاهيم الإعلام لم تعد حكرا على المتخصصين وخريجي الإعلام،محذرة من أن ظاهرة المؤثرين الجدد أفرزت نماذج منهم غير مؤهلين أخلاقيا؛ بسبب عدم كفاية القوانين المنظمة للمحتوى الذي يقدمونه، حيث يغلب عليه الترفيه والتسطيح.
وأوصت بأهمية أن تبحث الدولة عن صناع المحتوى المحترفين، وأن تقوم بالاستثمار فيهم من خلال توفير الإمكانيات التكنولوجية والمادية لهم؛ لمواجهة المؤثرين الذين يقدمون المحتوى غيرالهادف.
وخلال كلمتها أشارت د.رباب عبد الرحمن، أستاذ الإذاعة والتليفزيون بكلية الآداب جامعة حلوان، إلى أن عدد مستخدمي وسائل الاتصال الاجتماعي بلغ 58٪ من سكان العالم، الذكور هم الأكثر استخداما بنسبة 54٪، و”الفيس بوك” هو الاكثر استخداما.
وأوضحت بأن التأثيرات الاجتماعية السلبية للمؤثرين تظهر في التأثير علي القيم والعادات الاجتماعية، وعلى محددات الرقابة الاجتماعية والعادات والتقاليد، وتقديم صورة مشوهة للرجال والنساء، وللعلاقات الأسرية.
وحول التأثيرات النفسية لظاهرة المؤثرين، تطرقت “عبد الرحمن” إلى نتائج إحدي الدراسات التي توصلت إلى أن 88 ٪ من الشباب يتعرضون للضغط النفسي؛ بسبب المؤثرين فيما يتعلق بالحياة المثالية،كما أن الاعتماد على نصائح المؤثرين، قد تسبب التأثير على تجارب الشباب، وتقلل من الاستماع لنصائح الأهالي.
كما شارك في المناقشات بعض صناع المحتوى مؤكدين أن الصورة الذهنية لصناع المضامين المختلفة علي منصات التواصل بها نوع من التطرف، والتحامل!.
واقترحت الحلقة النقاشية عددا من الضوابط لمواجهة أزمة ظاهرة المؤثرين، ومنها تدشين صفحات على مواقع التواصل تعرض من خلالها الدولة المعلومات الخاصة بكافة القضايا لمواجهة الشائعات، وأن تناقش المؤسسات الدينية ظاهرة المؤثرين، واستحداث تدريس مقرر خاص بالتنمية الإعلامية في المدارس، وتطوير الدراسات لفهم هذه الظاهرة، واستحداث نظريات إعلامية تواكب هذه الظاهرة برؤى واقعية وجديدة.
وأوصي المؤتمر بضرورة الانتباه إلى أن المؤثرين يحتاجون إلى مراجعة الأبعاد الانسانية والجوانب الأخلاقية في انتاج المحتوى الرقمي الخاص بهم، مع ضرورة وجود تشريع قانوني صريح ينظم هذه الظاهرة ،والاعلام الجديد بصفة عامة.
ومابين النقد الحاد لتنامي الظاهرة ومطالبات البعض بالمنع والحجب،ورؤي التقنين والرقابة تظل ظاهرة المؤثرين تحت مجهر البحث والدراسة والنقاش المجتمعي ،حتي إشعار آخر!!