رسائل الهجرة.. بين الأمس والغد !!
بقلم د. خالد محسن
يحتفي العالم الإسلامي اليوم شرقا وغربا بذكري الهجرة النبوية المباركة التي أسست لمجتمع جديد دستوره القرآن ورسالة الإسلام السمحة التي أقامت العدل والمساواة، وقبول التعايش الإيجابي مع الآخر، بالحكمة والموعظة الحسنة.
كما استهدفت إحداث نقلة نوعية وانطلاقة جديدة لبناء دولة الإسلام ،إعزازاً لدين الله تعالى ، وفاتحة خير ونصر وبركة على الإسلام والمسلمين.
ومن مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بزغ فجر الأمل وانتفاضة التصحيح والإعمار وانطلقت حاملة بشريات الخير والإصلاح لكل ربوع الدنيا.
ومابين الأمس واليوم والغد ستظل فكرة الهجرة “استراتيجية” إنسانية فريدة تستهدف التغيير والتحديث،وإعادة بناء الإنسان ماديا ومعنويا.
وما حيينا نستلهم من الهجرة النبوية الشريفة دروسا نؤسس بها لمرتكزات حياة جديدة لا تعرف إلا التجديد والنماء وإرادة تحقيق التنمية المتواصلة بكافة صورها ،وتجسيد الارادة الحقيقة في النزوع نحو آفاق جديدة تضمن توفير الحياة الكريمة والمستقبل الأكثر أمنا لكل الاجيال.
ويطيب لي في ذكري الهجرة النبوية التوقف عند محطات مهمة أسست لدول مدنية راشدة،فالاسلام لم يعرف يوما الدول الدينية أو الكهنوتية..
أتصور أن من أهم الوقفات التي افتقدناها كثيرا في زمننا المعاصر ترسيخ مفهوم تواضع الداعية وترفقه ولين الجانب والترفع عن الكبر والعجب والفظاظة والتطرف، وهي أمراض عانت منها جماعات الإسلام السياسي علي مدار سنوات طويلة وتسببوا بهذه العلل والمقابح في تشويه صورة الدين الوسطية السمحة..
لقد خرج الرسول الكريم من مكة مهاجرا متخفيا ،تجنبا للصدام المبكر وإحباط رسالته ودخل المدينة عزيزا مرفوع الرأس في إحتفالية استقبال مبهجة وموكب مهيب لم يتصوره أحد،واشرقت الأرض بنور ربها، ثم عاد إلي مكة بعد أراد الله بالفتح الاعظم متواضعا
وشاكرا حامدا لله علي تمام فضله وكرمه،ساجدا علي ظهر ناقته الغراء حتي ظن الناس أنه لقي ربه،فدخل الناس في دين الله أفواجا اختيارا وحبا لا جبر وقسرا.
وصدق الله عز وجل: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) “البقرة ١٤٣”.
ومن المحطات المهمة تعزير فكرة التسامح ،والتعايش مع الآخر ،حيث كانت المدينة تعج بتركيبة أيديولوجية وعقيدية متباينة من عبدة الأوثان واليهود والموحدين وبعض الأعراب وغيرهم، فكانت المهمة تحقيق التوافق والتعايش بين مختلف هذه الفئات بدون صدام أو انتقام.
وأيضا كان من أولويات الدولة الناشئة إصلاح ذات البين وإرساء دعائم الوفاق بين قبيلتي الأوس والخزرج، كما أوصي النبي بحسن معاملة المنافقين ورفض التخلص منهم ونفيهم عسي أن يعودوا لجادة الصواب.
كما دارت حوارات جمة بين النبي وأهل المدينة حول كيفية تثبيت أركان الدولة والاهتمام بالتجارة والزراعة وتلقيح النخيل لزيادة الإنتاج ،حين قال صلي الله عليه وسلم” أنتم أدري بشؤون دنياكم”.
ومن دروس الهجرة الشريفة التي لا نمل من تكرارها ولا تنتهي آثارها ولا ينقطع مداها :
– حسن الإعداد والتخطيط السليم والأخذ بتمام الأسباب، فقد كان قرار الهجرة بإرادة ورعاية ربانية، وبتنفيذ بشري وتخطيط ،وتدبير سيد الخلق صلي الله عليه وسلم.
– حسن الظن والتوكل على الله تعالى ، بما يعني صدق اعتماد القلب على الله في دفع المضار وجلب المنافع، قال سبحانه:( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) “الطلاق ٢-٣”.
وأن يكون حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما نال، وحسن الصبر فيما فات.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة الشريفة متوكلاً على ربه واثقاً بنصره يعلم أن الله كافيه وحسبه ، ومع هذا كله لم يكن بالمتهاون المتواكل الذي يأتي الأمور على غير وجهها . بل إنه أعد خطة محكمة ثم قام بتنفيذها بكل سرية وإتقان.
فالقائد : محمد ،المساعد أبوبكر ،الفدائي علي ،التموين أسماء ،الاستخبارات عبدالله ، التمويه وخداع العدو عامر ،دليل الرحلة عبد الله بن أريقط ،والمكان المؤقت غار ثور ،موعد الانطلاق بعد ثلاثة أيام ،خط السير الطريق الساحلي.
– ومن الدروس الصبر واليقين طريق النصر والتمكين ،فأصحاب الرسالات في هذه الحياة لابد أن تواجههم المصاعب والمتاعب والمحن والابتلاءات قال تعالى : ( ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)”العنكبوت ٣”.
– تأييد الله تعالى لرسله بالمعجزات : ففي رحلة الهجرة الشريفة تجلت معجزات وآيات وبراهين تؤكد صدق دعوى النبي صلى الله عليه وسلم، في لحظة الخروج وإغشاء المتربصين وعنكبوت الغار،وآية فرس سراقة ،شاة أم معبد الهزيلة حين تفجر ضرعها باللبن ،وغيرها.
– دور المرأة المسلمة في الهجرة والتأسيس للحياة الجديدة، فلن ننسي دورهن في مساندة النبي ومنهن: السيد عائشة واختها اسماء “ذات النطاقين”، ونسيبة بنت كعب المازنية ، وأم منيع أسماء بنت عمرو السلمية.
– حسن اختيار الرفقاء وفريق العمل.. مبادئ ومواقف جسدها في الرحلة المباركة المقرب للنبي الكريم الصحابي الجليل أبوبكر الصديق بخصاله وسجاياه الفريدة .
يقول عز وجل:( إلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) “التوبة٤٠”.
ومن الرسائل التضحية من أجل تحقيق الهدف، الأمل في الغد الأفضل ورفض القنوط واليأس، اتقان التخطيط وحسن توظيف الطاقات واستغلال القدرات المتاحة، الثبات والبحث عن الحلول العملية والشاملة بعيدا عن المؤقتات غير المجدية.
وتبقي المعاني المستمدة من روح الهجرة النبوية كهجرة المعاصي وتجنب اقتراف الآثام ،وهجرة القلوب إلي الله والفرار إلي عفوه وكرمه ورحمته التي وسعت كل شئ.. وكل عام وأنتم بخير.