الإنتهازيه اسلوب الضعفاء وسبيل الدخلاء
كتب : محمود درويش
أعَلِّـمُهُ الرِّمَـايةَ كُلَّ يَـومٍ
فَلمَّـا اشْتَدَّ سَاعِدُه رَمانِي
وَكَمْ عَلَّمْتُـهُ نَظْمَ القَوَافي
فَلَـمَّـا قَالَ قَافِيةً هَجـانِي
الانتهازية من فعل نهز، وانتهز الفرصة تعني اغتنمها وبادر إليها، لكن الانتهازية لا تحمل معنى الفعل الإيجابي، فالانتهازيون أشخاص نالوا من الفشل نصيبهم، فالتجأوا إلى الآخرين كسلم يصعدونه، هم أشخاص يقومون بتحقيق مصالحهم على حساب مصلحة الآخر أو المصلحة العامة دون الأخذ بعين الاعتبار القيم والمبادئ الأخلاقية، وما أكثر الانتهازيون في زمننا هذا.
أولئك الذي يتسلقون أشلاء الآخرين ليصلوا إلى مبتغاهم، يجيدون فن المداهنة والتملق والمدح، مبدعون في رسم الخطط، لا مبدأ لديهم ولا فكرة يدافعون عنها، همهم الوحيد في الدنيا هو الاتكال على الآخرين والركوب على أكتافهم ليحققوا مآربهم، وحالما يحققون المبتغى يطلقون ساقهم للريح ولا يتبقى منهم شيئا إلا الذكرى والشعور بالحسرة وبعض من الشعور بالغباء.
لهم في كل مكان وجود وفي كل مجال لهم بصمة، إنهم ينتشرون ويتكاثرون يا سادة! معروف أن العلاقات الانسانية
لكنه على الرغم من ذكائه الخارق تجد الانتهازي ضائعا وحائرا، فهو يعيش حياته متنقلا من شخص إلى شخص، يحمل مكره في حقيبة ويحل كالشيطان على القلوب الضعيفة.
تقوم على الحب والمودة والإحسان والعرفان ورد الجميل ونكران الذات، وبوجود أمثال هؤلاء لا يبق هنالك مكان لأية قيمة إنسانية، فإن الانتهازية تورَّث من شخص لشخص، تنتقل من شخص لآخر، إنها عدوى الانتهازية التي خلقت في نفس كل واحد منا فوبيا العلاقات وتكوين الصداقات.
يقول الإمام الشافعي: “سَلاَمٌ عَلَى الدُّنْيَـا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِـهَا صَدِيقٌ صَدُوقٌ صَادِقُ الوَعْدِ مُنْصِـفَا”، لا يمكننا الحديث عن الانتهازية دون الحديث عن الصداقة، والصداقة في المعاجم العربية تعني علاقة مودة ومحبة بين شخصين أو أكثر، لكننا اليوم نعيش عصر السرعة فبعد أن كانت الصداقة عِشرة بين الأشخاص من المهد إلى اللحد، وبعد أن كان الصديق يرافق صديقه في الحياة إلى أن يحثو على قبره التراب، أصبحت اليوم مجرد مرحلة في حياة الإنسان، تقصر ولا تطول، مرحلة لها بداية ولها نهاية معروفة وصلاحية محدودة، قصة تكتب بحروف المدح والتملق وتنتهي بتحية سلام بلا رد.
يجد الانتهازيون في الصداقة أرضهم الخصبة، يتقربون ويتودَّدون ويلتصقون بالروح لصَقا ثم بعد أن يدرسوا شخصية الضحية يبدؤون في التنفيذ، إنها جريمة مكتملة الأركان. وهنا يحدث للضحية خلط في المصطلحات، فلا يفرق بين الاستغلال والإيثار، ويظن كل الظن أن استغلال الطرف الآخر له هو عاطفة حب زائدة عنده، وأنه لا ضير من التضحية وتقديم بعض التنازلات في سبيل الحفاظ على العلاقة السامية ألا وهي الصداقة، لكنها في الحقيقة غباء زائد منه.
الأصدقاء الانتهازيون، أصحاب الأقنعة أولئك الذين تعددت وجوههم، يتربصون بفريستهم وينقضون عليها في الوقت المناسب، فيبدؤون في نشر سحرهم الفتان والفتاك والكشف عن مواهبهم في التملق والتودد والإفراط في المديح والإطراء والمجاملة، حتى تظن نفسك الشخص المحظوظ في العالم وأنه الشمعة التي تحترق من أجل إسعادك، فتنطلق في مغامرتك بكل طاقة، وأثناء هذا يحدث الاستغلال العاطفي أو المالي أو أي نوع آخر من الاستغلال، فتجد نفسك داخل علاقة عديمة التوازن تستنزف كل طاقاتك التي أهدرتها على شخص غير سوي.
يقول الإمام الشافعي: “سَلاَمٌ عَلَى الدُّنْيَـا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِـهَا صَدِيقٌ صَدُوقٌ صَادِقُ الوَعْدِ مُنْصِـفَا”، لا يمكننا الحديث عن الانتهازية دون الحديث عن الصداقة.
الانتهازي في الحقيقة ذكي للغاية، بارع في التلون وتغيير جلدته والتخلي عن- مبادئه- هو شخص متعدد التوجهات والانتماءات والأفكار لا يدافع عن فكرة معينة، مستعد للتنكر لماضيه وعقائده، مستعد للتخلص من ماضيه أيضا وخلق شخصيات من خياله ووضع نفسه في خانة المثيرين للشفقة، هو شخص يقوم بأداء دوره بكل احترافية وبشكل لا يجعله موضع شك أبدا، يلعب دور المظلوم وأن كل العالم ضده وأن الجميع يحيك عنه المؤامرات، فيكسب عطف وود ضحيته وينطلق في مساره نحو التألق عن طريق التملق.
لكنه على الرغم من ذكائه الخارق تجد الانتهازي ضائعا وحائرا، فهو يعيش حياته متنقلا من شخص إلى شخص، يحمل مكره في حقيبة ويحل كالشيطان على القلوب الضعيفة ويوسوس في آذانهم إلى أن يقعوا في الشباك، ويستغل قدرتهم على العطاء فيبدأ بالأخذ بلا مقابل، وينحني الظهر وتفرش له الارض ورودا، فتحدث المـأساة إذ يتخلى الصديق المزعوم عن صديقه بعد انقضاء حاجته منه أو القضاء عليها. لكنه في النهاية لا بد وأن تسقط الأقنعة عن هذه النفوس المريضة والملوثة وتشير كل الأصابع إلى المتهم الذي لا يبق له خيار سوى العزلة والوحدة.
ليس هنالك طريقة تجعلنا في منأى من هؤلاء، كلنا معرضون لمصادفتهم والوقوع تحت أيديهم، فالانتهازية وباء العصر، لكن هنالك مثل إيطالي يقول “ذاك من يتملق إليك أكثر حتى مما ترغب؛ إما سيقوم بخدعك أو يتمنى أن يفعل”. و في النهاية وجب التذكير بأننا جميعنا انتهازيون بشكل أو بآخر، تسلقنا وركبنا على الأكتاف لنحقق غاية ما، ولتبرير أفعالنا نستعين بالنظرية الميكافيلية “الغاية تبرر الوسيلة” .