تكنولوجيا

بهية: مستقبل الثقافة الرقمية في مصر

بهية: مستقبل الثقافة الرقمية في مصر

كتب د. وائل بدوى

في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم نحو الرقمنة والذكاء الاصطناعي، يأتي كتاب “بهية: مستقبل الثقافة الرقمية في مصر” ليقدم رؤية استشرافية لمستقبل المشهد الثقافي المصري في العصر الرقمي. الكتاب، الذي صدر عن مؤسسة بتانة الثقافية، هو نتاج تعاون فكري بين الدكتور محمد خليف والمهندس زياد عبد التواب، حيث يسعيان من خلاله إلى تقديم تحليل متكامل حول كيفية اندماج الثقافة المصرية في العصر الرقمي، والتحديات والفرص المرتبطة بذلك.

استلهام من الماضي نحو المستقبل

يحمل عنوان الكتاب بُعدًا تاريخيًا واضحًا، حيث استلهم من كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” الذي أصدره عميد الأدب العربي طه حسين عام 1938، ولكن برؤية حديثة تتماشى مع تطورات تكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي، والعوالم الافتراضية مثل الميتافيرس وغيرها. هذه الرؤية الجديدة لا تقتصر على الثقافة في شكلها التقليدي، بل تمتد إلى التحديات والفرص التي تطرحها البيئة الرقمية، ومدى تأثيرها على عملية الإبداع ونقل المعرفة.

الثقافة التقليدية مقابل الثقافة الرقمية

يبدأ الكتاب بتوضيح الفرق بين الثقافة في مفهومها التقليدي والثقافة الرقمية، حيث يشير إلى أن الثقافة الرقمية ليست مجرد امتداد للثقافة التقليدية، بل هي منظومة جديدة لها خصائصها وقواعدها وأدواتها المختلفة. ففي حين تعتمد الثقافة التقليدية على الكتب الورقية، والمسارح، والمتاحف، والمعارض الفعلية، نجد أن الثقافة الرقمية تتمثل في الكتب الإلكترونية، الفنون الرقمية، الفعاليات الافتراضية، والأنشطة الثقافية عبر الإنترنت.


وهذا التحول يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى قدرة الثقافة الرقمية على تحقيق الأهداف التي سعت إليها الثقافة التقليدية، خاصة فيما يتعلق بإمكانية الوصول إلى المحتوى الثقافي، وإتاحته لشريحة أوسع من الجمهور دون قيود جغرافية أو اقتصادية.

مظاهر الثقافة الرقمية الحديثة

يتطرق الكتاب إلى تحليل مختلف أشكال الثقافة الرقمية التي أصبحت جزءًا أساسيًا من حياتنا اليوم، مثل:

•الكتاب الرقمي: وهو بديل عصري للكتب الورقية، حيث يمكن للقارئ الوصول إلى آلاف الكتب بسهولة عبر الأجهزة الذكية.

•الفنون الرقمية: وتشمل الفنون التشكيلية الرقمية، والموسيقى الإلكترونية، وأعمال الواقع الافتراضي التي تعيد تشكيل مفهوم الإبداع الفني.

•المعارض والحفلات الافتراضية: حيث أصبحت الأحداث الثقافية والفنية تُعقد عبر الميتافيرس وغيرها من البيئات الافتراضية، مما يتيح للجمهور من مختلف أنحاء العالم المشاركة دون الحاجة إلى الحضور الفعلي.

هذه التحولات تطرح فرصًا جديدة أمام المبدعين، لكنها في الوقت ذاته تفرض تحديات تتعلق بحقوق الملكية الفكرية، وقيم الإنتاج الثقافي في العصر الرقمي.

الذكاء الاصطناعي والثقافة: دعم أم تهديد؟

من القضايا المهمة التي يتناولها الكتاب هي تأثير الذكاء الاصطناعي على العملية الإبداعية. فمع تطور أدوات الذكاء الاصطناعي القادرة على إنتاج النصوص، وتأليف الموسيقى، وإنشاء اللوحات الفنية، بدأ التساؤل يثار حول ما إذا كانت هذه التقنيات ستساعد المبدعين أم ستحل محلهم.

يؤكد الكاتبان أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة داعمة للمبدعين، وليس بديلاً لهم، إذا تم استخدامه بشكل آمن وأخلاقي ومنضبط. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد في تحليل المحتوى الثقافي، واقتراح أفكار جديدة، وتحسين كفاءة الإنتاج الفني والأدبي، ولكن دون أن يلغي الدور الإنساني في الإبداع.

تحليل SWOT لمنظومة الثقافة الرقمية في مصر

في خطوة تحليلية معمقة، يقدم الكتاب تحليل SWOT (تحليل نقاط القوة والضعف والفرص والتهديدات) لمنظومة الثقافة الرقمية في مصر، حيث يتم استعراض العوامل التي تؤثر على نمو هذا المجال، ومن بينها:

نقاط القوة:

•الإرث الثقافي والتاريخي الغني لمصر.

•وجود جيل جديد من الشباب المبدعين في المجالات الرقمية.

•توجه الدولة لدعم التحول الرقمي في مختلف القطاعات.

نقاط الضعف:

•ضعف البنية التحتية الرقمية في بعض المناطق.

•قلة الوعي بثقافة الملكية الفكرية الرقمية.

•الحاجة إلى مزيد من التدريب والتأهيل للكوادر الثقافية على التقنيات الحديثة.

الفرص:

•التوسع في الصناعات الثقافية والإبداعية الرقمية.

•إمكانية تصدير المنتجات الثقافية المصرية إلى الأسواق العالمية.

•تطوير المتاحف والمكتبات الافتراضية لتعزيز الوصول إلى المحتوى الثقافي.

التهديدات:

•القرصنة الرقمية وانتهاك حقوق النشر.

•الاعتماد المفرط على التكنولوجيا دون مراعاة الأبعاد الثقافية والقيم المجتمعية.

•المنافسة العالمية الشديدة في مجال الصناعات الثقافية الرقمية.

السياسات المقترحة لدعم الثقافة الرقمية في مصر

في الفصل الخاص بالسياسات، يستعرض الكتاب تجربة فرنسا في تبني استراتيجية للثقافة الرقمية، ثم يقدم مقترحات لإطار سياسي وتنظيمي لدعم الثقافة الرقمية في مصر، تشمل المحاور التالية:

1.تنمية الوعي الثقافي: من خلال إطلاق مبادرات تعليمية لتعزيز الثقافة الرقمية بين المواطنين.

2.صون التراث الثقافي: عبر مشاريع رقمنة المخطوطات، والأرشيفات، والمتاحف.

3.دعم الصناعات الثقافية والإبداعية: من خلال تمويل المشاريع الناشئة، وتوفير حاضنات أعمال للمبدعين الرقميين.

4.تعزيز الإبداع الثقافي الرقمي: عبر تطوير برامج تدريبية ودورات متخصصة في الفنون الرقمية.

5.تحسين البنية التحتية الثقافية: من خلال توفير إنترنت عالي السرعة في المؤسسات الثقافية، وإنشاء مراكز للإبداع الرقمي.

6.التعاون الدولي: للاستفادة من التجارب العالمية الناجحة في مجال الثقافة الرقمية.

7.إطار قانوني متكامل: لحماية حقوق المبدعين، وضمان التوازن بين حرية الإبداع والملكية الفكرية.

هل نحن مستعدون للمستقبل الرقمي؟

إن التحولات الرقمية في الثقافة لم تعد مجرد ترف أو خيار إضافي، بل أصبحت ضرورة تفرضها التغيرات التكنولوجية والتطورات المجتمعية. ومع تسارع انتشار الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي، بات من الضروري أن تتبنى المنظومة الثقافية في مصر رؤية واضحة ومتماسكة لمواكبة هذا التطور، مع الحرص على الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية وسط العولمة الرقمية.

يرى مؤلفا الكتاب أن النجاح في هذا التحول يتطلب نهجًا متكاملًا يجمع بين دعم المبدعين، والاستثمار في البنية التحتية الرقمية، وتوفير بيئة تشريعية تحمي الحقوق الفكرية. فالتحدي الأساسي لا يكمن فقط في رقمنة الثقافة، بل في كيفية استخدام الرقمنة لدعم الإبداع وتوسيع قاعدة المستفيدين من المحتوى الثقافي المصري.

خطوات نحو المستقبل

لضمان نجاح التحول إلى الثقافة الرقمية، يقترح الكتاب مجموعة من التوصيات العملية التي يمكن أن تشكل خارطة طريق للمؤسسات الثقافية وصناع القرار، ومن بينها:

1.إطلاق برامج تدريبية للمبدعين في مجال الفنون الرقمية، لتمكينهم من استخدام الأدوات الحديثة في التعبير عن أفكارهم.

2.تعزيز الاستثمار في البنية التحتية الرقمية للمؤسسات الثقافية، من خلال توفير تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز في المتاحف والمكتبات.

3.تشجيع ريادة الأعمال في الصناعات الثقافية الرقمية، عبر تقديم دعم مالي ولوجستي للمشروعات الناشئة في هذا المجال.

4.إنشاء أرشيف رقمي شامل للتراث الثقافي المصري، يمكن الوصول إليه عالميًا، مما يعزز الهوية الثقافية المصرية على الساحة الدولية.

5.إطلاق حملات توعية بأهمية الثقافة الرقمية، لمساعدة المجتمع على التكيف مع التحولات الرقمية وتبنيها بشكل إيجابي.

بين التحديات والفرص: مصر على أعتاب عصر جديد

يخلص الكتاب إلى أن مستقبل الثقافة الرقمية في مصر يعتمد على مدى قدرتنا على التكيف مع التحولات التكنولوجية، مع الحفاظ على الهوية الثقافية الأصيلة. فالمستقبل الرقمي ليس مجرد تحول في الوسائل، بل هو إعادة تعريف للثقافة، وطريقة إنتاجها، ونشرها، والتفاعل معها.

في نهاية المطاف، يدعو الكتاب القارئ إلى التفكير في سؤال مهم:

هل نريد أن نكون مجرد مستهلكين للثقافة الرقمية، أم منتجين لها؟

الإجابة على هذا السؤال ستحدد الدور الذي يمكن أن تلعبه مصر في المشهد الثقافي العالمي الرقمي خلال السنوات القادمة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى