تكنولوجياثقافة

الإعلام بين الماضي والمستقبل: من الصحف والراديو إلى الذكاء الاصطناعي والتواصل الاجتماعي

الإعلام بين الماضي والمستقبل: من الصحف والراديو إلى الذكاء الاصطناعي والتواصل الاجتماعي

كتب د. وائل بدوى

شهدت وسائل الإعلام تطورًا هائلًا عبر العقود، حيث بدأت الصحف والراديو كوسائل رئيسية لنقل الأخبار والمعلومات، ثم جاء التلفزيون ليحدث ثورة في طريقة عرض المحتوى ونقل الأحداث لحظة بلحظة. مع تقدم الإنترنت، ظهرت المواقع الإخبارية التي جعلت الوصول إلى المعلومات أكثر سهولة وسرعة، ولكن التأثير الأكبر جاء مع منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتيك توك، حيث لم يعد الجمهور مجرد متلقٍ سلبي، بل أصبح مشاركًا ومؤثرًا في نشر وتوجيه الأخبار.

فيسبوك، الذي أُطلق عام 2004، أصبح واحدًا من أكبر مصادر الأخبار الرقمية، حيث تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 2.96 مليار مستخدم نشط شهريًا يعتمدون عليه ليس فقط للتواصل الاجتماعي، ولكن أيضًا لمتابعة الأخبار والتحليلات السياسية والاقتصادية. تشير دراسات إلى أن حوالي 44% من مستخدمي الإنترنت يعتمدون على فيسبوك كمصدر رئيسي للأخبار، مما يضعه في مقدمة المنصات الإعلامية الجديدة. من ناحية أخرى، برز تيك توك بسرعة كبيرة، حيث تجاوز عدد مستخدميه 1.7 مليار شخص بحلول عام 2024، مع توقعات بوصوله إلى 2.25 مليار مستخدم في غضون سنوات قليلة. رغم أن التيك توك بدأ كمنصة ترفيهية، إلا أنه تحول تدريجيًا إلى أداة قوية لنشر الأخبار، حيث يستخدمه الشباب بشكل متزايد للحصول على محتوى سريع وسهل الفهم.

مع هذا التحول، لعب الذكاء الاصطناعي دورًا محوريًا في تشكيل مستقبل الإعلام، حيث أصبحت المؤسسات الإخبارية تعتمد عليه في تحليل البيانات وتقديم محتوى مخصص للمستخدمين بناءً على اهتماماتهم وسلوكهم الرقمي. تستخدم وكالات الأنباء الكبرى مثل رويترز وبلومبرغ تقنيات الذكاء الاصطناعي لإنشاء تقارير وتحليلات دقيقة في مجالات مثل الاقتصاد والسياسة، مما يسرّع عملية إنتاج الأخبار ويجعلها أكثر دقة. كما أن الذكاء الاصطناعي أصبح أداة فعالة في التحقق من صحة الأخبار، حيث يمكنه الكشف عن الأخبار المزيفة التي تنتشر بسرعة على منصات التواصل الاجتماعي، مما يساعد على تقليل التضليل الإعلامي.

لكن هذا التطور لم يخلُ من تحديات كبيرة، من أبرزها “التزييف العميق” (Deepfake)، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي إنشاء فيديوهات وصور مزيفة تجعل من الصعب التمييز بين الحقيقة والخداع. هذه التقنية تمثل تهديدًا حقيقيًا للمصداقية الإعلامية، حيث يمكن استخدامها لنشر أخبار كاذبة والتأثير على الرأي العام. بالإضافة إلى ذلك، هناك مخاوف متزايدة بشأن تحيز الخوارزميات، حيث قد تؤدي إلى تعزيز وجهات نظر محددة وتضييق أفق المستخدمين عبر “فقاعات المعلومات”، مما يجعلهم عرضة لرؤية محتوى يتوافق فقط مع آرائهم المسبقة.

يواجه الإعلام اليوم تحديًا مزدوجًا: الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز جودة الأخبار والمحتوى، وفي نفس الوقت، ضمان الالتزام بالمعايير الأخلاقية والمهنية لتجنب التضليل الإعلامي والانحياز الخوارزمي. مستقبل الإعلام يتجه نحو مزيد من الدمج بين الذكاء الاصطناعي والصحافة التقليدية، حيث يمكن أن يصبح الذكاء الاصطناعي مساعدًا ذكيًا للصحفيين بدلاً من أن يحل محلهم. ومن خلال تطوير أدوات تحقق متقدمة وتعزيز الشفافية في الخوارزميات، يمكن للإعلام الرقمي أن يكون أكثر دقة وموثوقية، مما يعزز من دوره في تشكيل الرأي العام بشكل إيجابي ومسؤول.

في ظل هذا التحول الرقمي المتسارع، أصبح من الضروري أن تتبنى المؤسسات الإعلامية استراتيجيات جديدة تواكب تطورات الذكاء الاصطناعي والتغيرات في سلوك المستخدمين. لم يعد الجمهور يعتمد على مصدر واحد للمعلومات، بل أصبح يتفاعل مع الأخبار عبر منصات متعددة، مما يتطلب تكاملاً أعمق بين الصحافة التقليدية والإعلام الرقمي. لم يعد إنتاج المحتوى مقتصرًا على الصحفيين فحسب، بل بات المستخدمون العاديون يلعبون دورًا رئيسيًا في نقل الأحداث وتقديم وجهات نظر بديلة، وهو ما يُعرف بصحافة المواطن، التي أوجدتها منصات التواصل الاجتماعي.

التحولات الكبرى في صناعة الإعلام تفرض تحديات تتعلق بمصداقية الأخبار وآليات التحقق منها، خاصة في ظل انتشار الأخبار المزيفة والمعلومات المضللة. ومع ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون جزءًا من الحل، حيث يتم تطوير تقنيات تحليل النصوص والصور والفيديوهات لكشف الأخبار المزيفة وتحديد مصادرها. تعتمد بعض المنصات الإخبارية على نماذج تعلم الآلة لتحليل ملايين المنشورات يوميًا، مما يساعد على اكتشاف الأنماط المشبوهة وتصنيف المحتوى بناءً على درجة موثوقيته. ومن الأمثلة على ذلك، استخدام الذكاء الاصطناعي في فيسبوك لمحاربة الأخبار الكاذبة، حيث يتم تحليل المنشورات والتعليقات للتعرف على المحتوى المشكوك فيه وإحالته إلى فرق التحقق البشري لاتخاذ القرار بشأنه.

من ناحية أخرى، يثير الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي في الإعلام تساؤلات أخلاقية حول تحكم الخوارزميات في المحتوى الذي يراه المستخدمون. تعتمد منصات مثل فيسبوك وتيك توك على خوارزميات توصية متقدمة، تحدد ما يظهر للمستخدم بناءً على تفاعلاته السابقة، مما قد يؤدي إلى تعزيز “غرف الصدى” حيث يتعرض الأفراد فقط للأخبار والآراء التي تتوافق مع ميولهم المسبقة، مما قد يؤدي إلى مزيد من الاستقطاب والانغلاق الفكري. هذا يجعل من الضروري تطوير آليات لضمان تنوع المحتوى وتقديم وجهات نظر متعددة بدلاً من اقتصار المستخدم على دائرة محدودة من الأخبار.

على المستوى الاقتصادي، يشهد الإعلام الرقمي تحولًا في نماذج الأعمال، حيث أصبحت البيانات هي المحرك الأساسي للإيرادات. تعتمد الشركات الإعلامية على تحليل بيانات المستخدمين لتقديم إعلانات مستهدفة، مما يعزز العائدات لكنه يثير مخاوف بشأن الخصوصية. في الوقت نفسه، أدى انتشار المحتوى المجاني إلى تراجع عائدات الصحافة التقليدية، مما دفع العديد من المؤسسات إلى تبني نماذج اشتراك مدفوعة أو اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي لتحسين استراتيجيات التسويق وزيادة التفاعل مع المحتوى.

مع التطور الهائل في وسائل الإعلام وانتقالها من الصحف والراديو إلى التلفزيون، ثم إلى المنصات الرقمية مثل فيسبوك وتيك توك، وأخيرًا إلى الإعلام المدعوم بالذكاء الاصطناعي، أصبح من الضروري وضع إطار واضح للمحاذير والمحظورات التي يجب مراعاتها في هذا المجال. فبينما توفر التكنولوجيا فرصًا غير مسبوقة لنقل المعرفة والمعلومات، فإنها تفتح أيضًا الباب لمخاطر وتحديات يجب التنبه لها.

المحاذير

1.التزييف العميق والمعلومات المضللة

مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، أصبح بالإمكان إنشاء فيديوهات وصور مزيفة يصعب التمييز بينها وبين الواقع، مما قد يؤدي إلى نشر أخبار كاذبة والتأثير على الرأي العام بطرق خطيرة.

2.تحيز الخوارزميات وتضييق الأفق المعلوماتي

تعتمد منصات التواصل الاجتماعي على خوارزميات تحدد للمستخدم ما يراه بناءً على اهتماماته السابقة، مما قد يؤدي إلى تعزيز “فقاعات المعلومات” التي تجعل المستخدمين محصورين في وجهات نظر محددة، مما يقلل من التنوع الفكري ويزيد الاستقطاب الاجتماعي.

3.انتهاك الخصوصية واستغلال البيانات

تقوم العديد من المنصات الرقمية بجمع وتحليل بيانات المستخدمين لتقديم محتوى مخصص أو توجيه إعلانات مستهدفة، لكن هذه العملية تثير مخاوف بشأن كيفية استخدام هذه البيانات ومدى احترامها لخصوصية الأفراد.

4.الإعلانات المضللة والتلاعب العاطفي

بعض المنصات تستخدم تقنيات متقدمة لاستهداف المستخدمين بإعلانات مبنية على تحليل مشاعرهم وسلوكهم، مما قد يؤدي إلى استغلال نفسي يؤثر على قراراتهم بطرق غير أخلاقية.

5.تراجع دور الصحافة التقليدية وفقدان المهنية

مع تحول الجمهور إلى استهلاك الأخبار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت المؤسسات الإعلامية التقليدية في أزمة، مما قد يؤدي إلى فقدان الصحافة الاحترافية لصالح محتوى سريع الانتشار لكنه يفتقر إلى الدقة والمهنية.

المحظورات

1.نشر الأخبار الكاذبة والمعلومات غير الموثوقة

يجب على المؤسسات الإعلامية والأفراد تجنب نشر أو مشاركة معلومات غير مؤكدة أو مشكوك في صحتها، حيث يمكن أن تؤدي إلى تضليل الجمهور والتسبب في أضرار اجتماعية واقتصادية وسياسية.

2.استخدام الذكاء الاصطناعي في خلق محتوى مضلل

يحظر استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لإنشاء أخبار زائفة أو تحريف الحقائق بطريقة تهدف إلى خداع الجمهور أو التلاعب بالرأي العام.

3.انتهاك حقوق الملكية الفكرية

يعد استخدام المحتوى دون إذن من أصحابه، سواء كان نصوصًا أو صورًا أو فيديوهات، أمرًا غير قانوني ويجب الالتزام بحقوق النشر لضمان بيئة إعلامية عادلة ومستدامة.

4.استهداف الفئات الضعيفة بالأخبار الموجهة

يجب تجنب استغلال الأخبار والتقارير الإعلامية لاستهداف الفئات الأكثر عرضة للتضليل، مثل الأطفال وكبار السن، من خلال تقديم معلومات غير دقيقة أو محتوى يهدف إلى التأثير عليهم نفسيًا أو فكريًا.

5.التحريض على العنف والكراهية

يمنع استخدام الإعلام الرقمي لنشر خطاب الكراهية أو التحريض على العنف أو التمييز العنصري والديني، حيث يمكن أن يكون لهذا تأثير خطير على استقرار المجتمعات والتعايش السلمي.

إن مستقبل الإعلام في ظل الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية يعتمد على تحقيق التوازن بين الاستفادة من الإمكانيات التكنولوجية وحماية القيم الصحفية والأخلاقية. ولتحقيق ذلك، يجب وضع ضوابط واضحة تحمي الجمهور من التضليل والاستغلال، مع تعزيز الوعي الرقمي لدى الأفراد ليكونوا قادرين على التمييز بين الحقيقة والتلاعب الإعلامي.

في المستقبل، من المتوقع أن يستمر الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل صناعة الإعلام بطرق أكثر تعقيدًا، حيث سيؤدي إلى ظهور تقنيات جديدة مثل الصحافة الآلية، التي يمكنها إنتاج تقارير إخبارية بناءً على تحليل البيانات الضخمة دون تدخل بشري. كما ستتوسع تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل الترجمة الفورية، وتوليد المحتوى الصوتي باستخدام تقنيات تحويل النصوص إلى صوت، مما قد يسهل وصول الأخبار إلى جمهور أوسع بلغات متعددة. ومع ذلك، يظل التحدي الأكبر هو تحقيق توازن بين الابتكار التكنولوجي والمصداقية الصحفية، بحيث يتم استغلال إمكانيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز جودة الأخبار دون المساس بأخلاقيات العمل الإعلامي.

رأي المحرر

يبدو واضحًا أن منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتيك توك لم تعد مجرد أدوات ترفيه أو تواصل اجتماعي، بل أصبحت مراكز رئيسية لصناعة وتوجيه الرأي العام. هذا التحول يحمل في طياته فرصًا غير محدودة، لكنه يثير أيضًا تحديات جوهرية تتعلق بالمصداقية، والأمان المعلوماتي، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الإعلام. في الماضي، كانت المؤسسات الصحفية والتلفزيونية تخضع لمعايير تحريرية صارمة، لكن اليوم بات كل فرد قادرًا على نشر الأخبار، مما خلق بيئة إعلامية غير متوازنة تتأرجح بين الإبداع والفوضى المعلوماتية.

من جهة، يتيح الذكاء الاصطناعي إمكانيات غير مسبوقة في مجال الإعلام، سواء من خلال تحليل البيانات الضخمة، أو تقديم محتوى مخصص لكل مستخدم، أو حتى إنتاج تقارير إخبارية آلية بسرعة ودقة. لكن في المقابل، يطرح هذا الواقع الجديد إشكاليات تتعلق بالشفافية والتحيز الخوارزمي، إذ باتت الأخبار تصل إلينا بناءً على خوارزميات تحدد ما نراه وما لا نراه، مما قد يقود إلى تعزيز الاستقطاب الفكري والسياسي بدلًا من توسيع آفاق المعرفة.

هناك مخاوف جدية من أن تتحول هذه الأدوات إلى سلاح ذو حدين، فبينما تسهل الوصول إلى المعلومات، فإنها أيضًا تفتح المجال أمام التلاعب الجماهيري ونشر المعلومات المضللة، خاصة في ظل تطور تقنيات التزييف العميق. ومن هنا، يصبح السؤال الأهم: كيف يمكننا الاستفادة من هذه التقنيات دون أن تفقد الصحافة دورها الأساسي في البحث عن الحقيقة؟

المستقبل يحمل تحديات هائلة للإعلام التقليدي، حيث لم يعد يكفي أن تكون المؤسسة الإخبارية ذات مصداقية، بل أصبحت بحاجة إلى التكيف مع نماذج جديدة للتفاعل مع الجمهور. المطلوب اليوم ليس فقط إنتاج محتوى عالي الجودة، بل ضمان وصوله إلى الجمهور المستهدف وسط زحام المعلومات والتضليل الرقمي. لذلك، لا بد من تطوير معايير وضوابط تنظيمية تضمن استخدام الذكاء الاصطناعي في الإعلام بطرق أخلاقية، بحيث يصبح أداة لتعزيز الشفافية والمساءلة بدلاً من أن يكون وسيلة للتلاعب بالمجتمعات.

في النهاية، لا يمكن إنكار أن الذكاء الاصطناعي سيظل جزءًا أساسيًا من مستقبل الإعلام، ولكن السؤال الحقيقي هو كيف سنتمكن من استخدامه بذكاء ومسؤولية. الصحافة لم تمت، لكنها بلا شك بحاجة إلى إعادة تعريف دورها في العصر الرقمي، حيث أصبح السباق على الحقيقة أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى